تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٤٧٠
وتطهرها وتنميها وتكملها، لاشتمالها على كمال العدل والقسط، والإخلاص، والعبودية لله رب العالمين، وحده لا شريك له. وحقيق بكتاب موصوف بما ذكر، أن يحمد الله نفسه على إنزاله، وأن يتمدح إلى عباده به. قوله: * (لينذر بأسا شديدا من لدنه) * أي: لينذر بهذا القرآن الكريم، عقابه الذي عنده، أي: قدره وقضاءه، على من خالف أمره، وهذا يشمل عقاب الدنيا، وعقاب الآخرة، وهذا أيضا، من نعمه أن خوف عباده، وأنذرهم، ما يضرهم ويهلكهم. كما قال تعالى لما ذكر في هذا القرآن وصف النار، قال: * (ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون) *. فمن رحمته بعباده، أن قيض العقوبات الغليظة على من خالف أمره، وبينها لهم، وبين لهم الأسباب الموصلة إليها. * (ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا) * أي: وأنزل الله على عبده الكتاب، ليبشر المؤمنين به، وبرسله، وكتبه، الذين كمل إيمانهم، فأوجب لهم عمل الصالحات، وهي: الأعمال الصالحة، من واجب، ومستحب، التي جمعت الإخلاص والمتابعة. * (أن لهم أجرا حسنا) * وهو: الثواب الذي رتبه الله على الإيمان والعمل الصالح، وأعظمه وأجله، الفوز برضا الله ودخول الجنة، التي فيها، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وفي وصفه بالحسن، دلالة على أنه لا مكدر فيه، ولا منغص، بوجه من الوجوه، إذ لو وجد فيه شيء من ذلك، لم يكن حسنه تاما. ومع ذلك فهذا الأجر الحسن * (ماكثين فيه أبدا) * لا يزول عنهم، ولا يزولون عنه، بل نعيمهم في كل وقت متزايد، وفي ذكر التبشير، ما يقتضي ذكر الأعمال الموجبة للمبشر به. وهو: أن هذا القرآن، قد اشتمل على كل عمل صالح، موصل لما تستبشر به النفوس، وتفرح به الأرواح. * (وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا) * من اليهود والنصارى، والمشركين، الذين قالوا هذه المقالة الشنيعة، فإنهم لم يقولوها عن علم ولا يقين، لا علم منهم، ولا علم من آبائهم الذين قلدوهم واتبعوهم، بل إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس. * (كبرت كلمة تخرج من أفواههم) * أي: عظمت شناعتها واشتدت عقوبتها، وأي شناعة أعظم من وصفه، بالاتخاذ للولد، الذي يقتضي نقصه، ومشاركة غيره له في خصائص الربوبية، والإلهية، والكذب عليه؟!! * (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا) *، ولهذا قال هنا: * (إن يقولون إلا كذبا) * أي: كذبا محضا ما فيه من الصدق شيء، وتأمل كيف أبطل هذا القول بالتدريج والانتقال من شيء إلى أبطل منه، فأخبر أولا: أنه * (ما لهم به من علم ولا لآبائهم) * والقول على الله بلا علم، لا شك في منعه وبطلانه، ثم أخبر ثانيا، أنه قول قبيح شنيع فقال: * (كبرت كلمة تخرج من أفواههم) *، ثم ذكر ثالثا مرتبته من القبح، وهو: الكذب المنافي للصدق. ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم، حريصا على هداية الخلق، ساعيا في ذلك أعظم السعي، فكان صلى الله عليه وسلم، يفرح ويسر بهداية المتدين، ويحزن ويأسف على المكذبين الضالين، شفقة منه صلى الله عليه وسلم، عليهم ورحمة بهم، أرشده الله أن لا يشغل نفسه بالأسف على هؤلاء، الذين لا يؤمنون بهذا القرآن، كما قال في الأخرى. * (لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين) *. وقال: * (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) *. وهنا قال: * (فلعلك باخع نفسك) * أي: مهلكها، غما وأسفا عليهم، وذلك أن أجرك، قد وجب على الله، وهؤلاء لو علم الله فيهم خيرا، لهداهم. ولكنه علم أنهم لا يصلحون إلا للنار، فلذلك خذلهم، فلم يهتدوا، فإشغالك نفسك غما وأسفا عليهم، ليس فيه فائدة لك. وفي هذه الآية ونحوها عبرة. فإن المأمور بدعاء الخلق إلى الله، عليه التبليغ، والسعي بكل سبب يوصل إلى الهداية، وسد طرق الضلال والغواية بغاية ما يمكنه، مع التوكل على الله في ذلك، فإن اهتدوا فبها ونعمت، وإلا فلا يحزن ولا يأسف، فإن ذلك مضعف للنفس، هادم للقوى، ليس فيه فائدة، بل يمضي على فعله، الذي كلف به وتوجه إليه، وما عدا ذلك، فهو خارج عن قدرته. وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله له: * (إنك لا تهدي من أحببت) * وموسى عليه السلام يقول: * (رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي) * الآية، فمن عداهم، من باب أولى وأحرى، قال تعالى: * (فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمسيطر) *. * (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا) * يخبر تعالى، أنه جعل جميع ما على وجه الأرض، من مآكل لذيذة، ومشارب، وملابس طيبة،
(٤٧٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 465 466 467 468 469 470 471 472 473 474 475 ... » »»