تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٤٥٩
يكون معه آلهة، فقد ضل من قال ذلك، ضلالا مبينا، وظلم ظلما كبيرا. لقد تضاءلت لعظمته المخلوقات العظيمة، وصغرت لدى كبريائه، السماوات السبع، ومن فيهن، والأرضون السبع، ومن فيهن * (والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه) *. وافتقر إليه العالم العلوي والسفلي، فقرا ذاتيا، لا ينفك عن أحد منهم في وقت من الأوقات. هذا الفقر بجميع وجوهه، فقر من جهة الخلق، والرزق، والتدبير. وفقر من جهة الاضطرار، إلى أن يكون معبوده ومحبوبه، الذي إليه يتقربون وإليه في كل حال يفزعون. ولهذا قال: * (تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن، وإن من شيء) * من حيوان ناطق، وغير ناطق، ومن أشجار، ونبات، وجامد، وحي وميت * (إلا يسبح بحمده) * بلسان الحال، ولسان المقال. * (ولكن لا تفقهون تسبيحهم) * أي: تسبيح باقي المخلوقات، التي على غير لغتكم. بل يحيط بها علام الغيوب. * (إنه كان حليما غفورا) * حيث لم يعاجل بالعقوبة، من قال فيه قولا تكاد السماوات والأرض تتفطر منه وتخر له الجبال. ولكنه أمهلهم، وأنعم عليهم، وعفاهم، ورزقهم، ودعاهم إلى بابه، ليتوبوا من هذا الذنب العظيم، ليعطيهم الثواب الجزيل، ويغفر لهم ذنبهم. فلولا حلمه ومغفرته، لسقطت السماوات على الأرض، ولما ترك على ظهرها من دابة. * (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا) * يخبر تعالى عن عقوبته للمكذبين بالحق الذين ردوه، وأعرضوا عنه، أنه يحول بينهم وبين الإيمان فقال: * (وإذا قرأت القرآن) * الذي فيه الوعظ والتذكير، والهدى والإيمان، والخير، والعلم الكثير. * (جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا) * يسترهم عن فهمه حقيقة، وعن التحقق بحقائقه، والانقياد إلى ما يدعو إليه من الخير. * (وجعلنا على قلوبهم أكنة) * أي: أغطية وأغشية، لا يفقهون معها القرآن، بل يسمعونه سماعا تقوم به عليهم الحجة، * (وفي آذانهم وقرا) * أي: صمما على سماعه، * (وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده) * داعيا لتوحيده، ناهيا عن الشرك به. * (ولوا على أدبارهم نفورا) * من شدة بغضهم له، ومحبتهم لما هم عليه من الباطل. كما قال تعالى: * (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون) *. * (نحن أعلم بما يستمعون به) * أي: إنما منعناهم من الانتفاع عند سماع القرآن، لأننا نعلم أن مقاصدهم سيئة، يريدون أن يعثروا على أقل شيء، ليقدحوا به. وليس استماعهم لأجل الاسترشاد، وقبول الحق، وإنما هم متعمدون على عدم اتباعه. ومن كان بهذه الحالة، لم يفده الاستماع شيئا، ولهذا قال: * (إذا يستمعون إليك وإذ هم نجوى) * أي: متناجين * (إذ يقول الظالمون) * في مناجاتهم: * (إن تتبعون إلا رجلا مسحورا) * فإذا كانت هذه مناجاتهم الظالمة فيما بينهم، وقد بنوها على أنه مسحور، فهم جازمون أنهم غير معتبرين لما قال، وأنه يهذي، لا يدري ما يقول. قال تعالى: * (انظر) * متعجبا * (كيف ضربوا لك الأمثال) * التي هي أضل الأمثال، وأبعدها عن الصواب. * (فضلوا) * في ذلك، أو صارت سببا لضلالهم لأنهم بنوا عليها أمرهم، والمبني على فاسد، أفسد منه. * (فلا يستطيعون سبيلا) * أي: لا يهتدون أي اهتداء، فيصيبهم الضلال المحض، والظلم الصرف. * (وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا * قل كونوا حجارة أو حديدا * أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا * يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا) * يخبر تعالى عن قول المنكرين للبعث، وتكذيبهم به، واستبعادهم بقولهم: * (أإذا كنا عظاما ورفاتا) * أي: أجسادا بالية * (أإنا لمبعوثون خلقا جديدا) * أي: لا يكون ذلك، وهو محال بزعمهم. فجهلوا أشد الجهل، حيث كذبوا رسول الله، وجحدوا آيات الله، وقاسوا قدرة خالق السماوات والأرض، بقدرتهم الضعيفة العاجزة. فلما رأوا أن هذا ممتنع عليهم، لا يقدرون عليه، جعلوا قدرة الله كذلك. فسبحان من جعل خلقا من خلقه،
(٤٥٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 454 455 456 457 458 459 460 461 462 463 464 ... » »»