ونجاهم إلى البر، ونسوا ما كانوا يدعون إليه من قبل، أشركوا به، من لا ينفع، ولا يضر، ولا يعطي، ولا يمنع، وأعرضوا عن الإخلاص لربهم ومليكهم. وهذا من جهل الإنسان وكفره، فإن الإنسان كفور للنعم. إلا من هدى الله، فمن عليه بالعقل السليم، واهتدى إلى الصراط المستقيم. فإنه يعلم، أن الذي يكشف الشدائد، وينجي من الأهوال، هو الذي يستحق أن يفرد، وتخلص له سائر الأعمال في الشدة، والرخاء، واليسر والعسر. وأما من خذل، ووكل إلى عقله الضعيف، فإنه لم يلحظ وقت الشدة إلا مصلحته الحاضرة، وإنجاءه في تلك الحال. فلما حصلت له النجاة، وزالت عنه المشقة، ظن بجهله، أنه قد أعجز الله ولم يخطر بقلبه، شيء من العواقب الدنيوية، فضلا عن أمور الآخرة. ولهذا ذكرهم الله بقوله: * (أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا) * أي: فهو على كل شيء قدير، إن شاء أنزل عليكم عذابا، من أسفل منكم بالخسف، أو من فوقكم بالحاصب، وهو: العذاب الذي يحصيهم، فيصبحوا هالكين، فلا تظنوا أن الهلاك لا يكون إلا في البحر. وإن ظننتم ذلك، فلستم آمنين من * (أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح) * أي: ريحا شديدة جدا تقصف ما أتت عليه. * (فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا) * أي: تبعة ومطالبة، فإن الله لم يظلمكم مثقال ذرة. * (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) * وهذا من كرمه عليهم وإحسانه، الذي لا يقادر قدره، حيث كرم بني آدم بجميع وجوه الإكرام، فكرمهم بالعلم والعقل، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وجعل منهم الأولياء والأصفياء، وأنعم عليهم بالنعم الظاهرة والباطنة. * (وحملناهم في البر) * على الركاب، من الإبل، والبغال، والحمير، والمراكب البرية. * (والبحر) * في السفن والمراكب * (ورزقناهم من الطيبات) * من المآكل والمشارب، والملابس، والمناكح. فما من طيب تتعلق به حوائجهم، إلا وقد أكرمهم الله به، ويسره لهم غاية التيسير. * (وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) * بما خصهم به من المناقب، وفضلهم به من الفضائل، التي ليست لغيرهم من أنواع المخلوقات. أفلا يقومون بشكر من أولى النعم، ودفع النقم، ولا تحجبهم النعم عن المنعم فيشتغلوا بها عن عبادة ربهم، بل ربما استعانوا بها على معاصيه. * (يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأول ئك يقرؤون كتابهم ولا يظلمون فتيلا * ومن كان في ه ذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا) * يخبر تعالى عن حال الخلق يوم القيامة، وأنه يدعو كل أناس، ومعهم إمامهم وهاديهم، إلى الرشد، وهم: الرسل ونوابهم، فتعرض كل أمة، ويحضرها رسولهم الذي دعاهم. وتعرض أعمالهم على الكتاب، الذي يدعو إليه الرسول، هل هي موافقة له أم لا؟ فينقسمون بهذا قسمين. * (فمن أوتي كتابه بيمينه) * لكونه اتبع إمامه، الهادي إلى صراط مستقيم، واهتدى بكتابه، فكثرت حسناته، وقلت سيئاته * (فأولئك يقرؤون كتابهم) * قراءة سرور وبهجة، على ما يرون فيها، مما يفرحهم ويسرهم. * (ولا يظلمون فتيلا) * مما عملوه من الحسنات. * (ومن كان في هذه) * الدنيا * (أعمى) * عن الحق، فلم يقبله، ولم ينقد له بل اتبع الضلال. * (فهو في الآخرة أعمى) * عن سلوك طريق الجنة كما لم يسلكه في الدنيا * (وأضل سبيلا) * فإن الجزاء من جنس العمل، كما تدين تدان. وفي هذه الآية دليل على أن كل أمة تدعى إلى دينها وكتابها، هل عملت به أم لا؟ وأنهم لا يؤاخذون بشرع نبي، لم يؤمروا باتباعه، وأن الله لا يعذب أحدا، إلا بعد قيام الحجة عليه، ومخالفته لها. وأن أهل الخير، يعطون كتبهم بأيمانهم ويحصل لهم من الفرح والسرور، شيء عظيم، وأن أهل الشر بعكس ذلك، لأنهم لا يقدرون على قراءة كتبهم، من شدة غمهم، وحزنهم وثبورهم.
(٤٦٣)