تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٤٥٥
* (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) * وهذا إخبار عن كمال عدله، أن كل إنسان يلزمه طائره في عنقه، أي: ما عمل من خير وشر، يجعله الله ملازما له، لا يتعداه إلى غيره، فلا يحاسب بعمل غيره ولا يحاسب غيره بعمله. * (ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا) * فيه عمله، من الخير والشر، حاضرا، صغيره وكبيره، ويقال له: * (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) *. وهذا من أعظم العدل والإنصاف، أن يقال للعبد: حاسب نفسك، ليعرف ما عليه من الحق الموجب للعقاب. * (من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) * أي: هداية كل أحد وضلاله لنفسه، ولا يحمل أحد ذنب أحد ولا يدفع عنه مثقال ذرة من الشر. والله تعالى أعدل العادلين. لا يعذب أحدا حتى تقوم عليه الحجة بالرسالة، ثم يعاند الحجة. وأما من انقاد للحجة، أو لم تبلغه حجة الله تعالى، فإن الله تعالى لا يعذبه. استدل بهذه الآية على أن أهل الفترات، وأطفال المشركين، لا يعذبهم الله، حتى يبعث إليهم رسولا، لأنه منزه عن الظلم. * (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا) * يخبر تعالى أنه إذا أراد أن يهلك قرية من القرى الظالمة، ويستأصلها بالعذاب، أمر مترفيها، أمرا قدريا، ففسقوا فيها، واشتد طغيانهم. * (فحق عليها القول) * أي: كلمة العذاب التي لا مرد لها * (فدمرناها تدميرا) *. وهؤلاء أمم كثيرة أبادهم الله بالعذاب، من بعد قوم نوح، كعاد، وثمود، وقوم لوط، وغيرهم، من عاقبهم الله، لما كثر بغيهم، واشتد كفرهم، أنزل الله بهم عقابه العظيم. * (وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا) * فلا يخافون منه ظلما، وأنه يعاقبهم على ما عملوه. * (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشآء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا * ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا * كلا نمد ه ؤلاء وه ؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا * انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا) * يخبر تعالى أن * (من كان يريد العاجلة) * أي: الدنيا المنقضية الزائلة، فعمل لها، وسعى، ونسي المبتدأ أو المنتهى، أن الله يعجل له من حطامها ومتاعها، ما يشاؤه ويريده، مما كتب الله له في اللوح المحفوظ، ولكنه متاع غير نافع ولا دائم له. ثم يجعل له في الآخرة * (جهنم يصلاها) * أي: يباشر عذابها * (مذموما مدحورا) * أي: في حالة الخزي والفضيحة والذم من الله، ومن خلقه، والبعد عن رحمة الله، فيجمع له العذاب والفضيحة. * (ومن أراد الآخرة) * فرضيها وآثرها على الدنيا * (وسعى لها سعيها) * الذي دعت إليه الكتب السماوية، والآثار النبوية، فعمل بذلك على قدر إمكانه * (وهو مؤمن) * بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر. * (فأولئك كان سعيهم مشكورا) * أي: مقبولا منمى، مدخرا، لهم أجرهم وثوابهم عند ربهم. ومع هذا، فلا يفوتهم نصيبهم من الدنيا، فكلا يمده الله منها، لأنه عطاؤه وإحسانه. * (وما كان عطاء ربك محظورا) * أي: ممنوعا من أحد، بل جميع الخلق راتعون بفضله وإحسانه. * (انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض) * في الدنيا، بسعة الأرزاق وقلتها، واليسر والعسر، والعلم والجهل، والعقل والسفه، وغير ذلك من الأمور التي فضل الله العباد بعضهم على بعض بها. * (وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا) * فلا نسبة لنعيم الدنيا ولذاتها، إلى الآخرة، بوجه من الوجوه. فكم بين من هو في الغرف العاليات، واللذات المتنوعات، والسرور والخيرات والأفراح، ممن هو يتقلب في الجحيم، ويعذب بالعذاب الأليم وقد حل عليه سخط الرب الرحيم، وكل من الدارين بين أهلها من التفاوت ما لا يمكن أحدا عده. * (لا تجعل مع الله إل ها آخر فتقعد مذموما مخذولا) * أي: لا تعتقد أن أحدا من المخلوقين يستحق شيئا من العبادة، ولا تشرك بالله أحدا منهم، فإن ذلك داع للذم والخذلان. فالله، وملائكته، ورسله، قد نهوا عن الشرك، وذموا عن عمله أشد الذم، ورتبوا عليه من الأسماء المذمومة، والأوصاف المقبوحة، ما كان به متعاطيه، وأشنع الخلق وصفا، وأقبحهم نعتا. وله من الخذلان في أمر دينه ودنياه، بحسب ما تركه من التعلق بربه. فمن تعلق بغيره، فهو مخذول، قد وكل إلى من تعلق به، ولا أحد من الخلق ينفع
(٤٥٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 450 451 452 453 454 455 456 457 458 459 460 ... » »»