تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٤٥٦
أحدا، إلا بإذن الله. كما أن من جعل مع الله إلها آخر، له الذم والخذلان. فمن وحده، وأخلص دينه لله، وتعلق به دون غيره، فإنه محمود معان في جميع أحواله. * (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) * لما نهى تعالى عن الشرك به، أمر بالتوحيد، فقال: * (وقضى ربك) * قضاء دينيا، وأمرا شرعيا. * (أن لا تعبدوا) * أحدا من أهل الأرض والسماوات والأحياء والأموات. * (إلا إياه) * لأنه الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي له كل صفة كمال، وله من كل صفة أعظمها، على وجه لا يشبهه أحد من خلقه، وهو المنعم بالنعم الظاهرة والباطنة، الدافع لجميع النقم، الخالق، الرازق، المدبر لجميع الأمور، فهو المتفرد بذلك كله، وغيره ليس له من ذلك شيء. ثم ذكر بعد حقه القيام بحق الوالدين فقال: * (وبالوالدين إحسانا) * أي: أحسنوا إليهما، بجميع وجوه الإحسان، القولي والفعلي، لأنهما سبب وجود العبد، ولهما من المحبة للولد، والإحسان إليه، والقرب، ما يقتضي تأكد الحق، ووجوب البر. * (إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما) * أي: إذا وصلا إلى هذا السن، الذي تضعف فيه قواهما، ويحتاجان من اللطف والإحسان، ما هو معروف. * (فلا تقل لهما أف) * وهذا أدنى مراتب الأذى، نبه به على ما سواه. والمعنى لا تؤذهما أدنى أذية. * (ولا تنهرهما) * أي: تزجرهما، وتتكلم كلاما خشنا. * (وقل لهما قولا كريما) * بلفظ يحبانه، وتأدب، وتلطف معهما، بكلام لين حسن يلذ على قلوبهما، وتطمئن به نفوسهما، وذلك يختلف باختلاف الأحوال والعوائد، والأزمان. * (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) * أي: تواضع لهما، ذلا لهما، ورحمة، واحتسابا للأجر، لا لأجل الخوف منهما، أو الرجاء لما لهما، ونحو ذلك من المقاصد، التي لا يؤجر عليها العبد. * (وقل رب ارحمهما) * أي: ادع لها بالرحمة أحياء، وأمواتا. جزاء على تربيتهما إياك، صغيرا. وفهم من هذا، أنه كلما ازدادت التربية، ازداد الحق. وكذلك من تولى تربية الإنسان في دينه ودنياه، تربية صالحة غير الأبوين، فإن له على من رباه حق التربية. * (ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا) * أي: ربكم تعالى مطلع على ما أكنته سرائركم، من خير وشر، وهو لا ينظر إلى أعمالكم وأبدانكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وما فيها من الخير والشر. * (إن تكونوا صالحين) * بأن تكون إرادتكم ومقاصدكم دائرة على مرضاة الله ورغبتكم فيما يقربكم إليه، وليس في قلوبكم إرادات مستقرة لغير الله. * (فإنه كان للأوابين) * أي: الرجاعين إليه في جميع الأوقات * (غفورا) *. فمن اطلع الله على قلبه، وعلم أنه ليس فيه إلا الإنابة إليه ومحبته، ومحبة ما يقرب إليه، فإنه، وإن جرى منه في بعض الأوقات، ما هو مقتضى الطبائع البشرية، فإن الله يعفو عنه، ويغفر له الأمور العارضة، غير المستقرة. * (وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا) * يقول تعالى: * (وآت ذا القربى حقه) * من البر والإكرام، الواجب والمسنون، وذلك الحق، يتفاوت بتفاوت الأحوال، والأقارب، والحاجة وعدمها، والأزمنة. * (والمسكين) * آته حقه من الزكاة ومن غيرها، لتزول مسكنته * (وابن السبيل) * وهو: الغريب المنقطع به عن بلده. * (ولا تبذر تبذيرا) * يعطى الجميع من المال، على وجه لا يضر المعطى، ولا يكون زائدا على المقدار اللائق، فإن ذلك تبذير، وقد نهى الله عنه وأخبر: * (إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين) * لأن الشيطان، لا يدعو إلا إلى كل خصلة ذميمة، فيدعو الإنسان إلى البخل والإمساك، فإذا عصاه، دعاه إلى الإسراف والتبذير. والله تعالى، إنما يأمر بأعدل الأمور وأقسطها، ويمدح عليه، كما في قوله، عن عباد الرحمن الأبرار * (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) *. وقال هنا: * (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك) * كناية عن شدة الإمساك والبخل. * (ولا تبسطها كل البسط) * فتنفق فيما لا ينبغي، وزيادة على ما ينبغي. * (فتقعد) * إن فعلت ذلك * (ملوما) * أي: تلام على ما فعلت * (محسورا) * أي: حاسر اليد فارغها، فلا بقي ما في يدك من المال ولا خلفه مدح وثناء. وهذا الأمر بإيتاء ذي القربى، مع القدرة والغنى. فأما مع العدم، أو تعسر النفقة الحاضرة، فأمر تعالى أن يردوا ردا جميلا فقال: * (وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها) * أي: تعرضن عن إعطائهم إلى وقت آخر، ترجو فيه من الله تيسير الأمر. * (فقل لهم قولا ميسورا) * أي: لطيفا برفق، ووعد بالجميل، عند سنوح الفرصة، واعتذار بعدم الإمكان، في الوقت الحاضر، لينقلبوا عنك، مطمئنة خواطرهم، كما قال تعالى: * (قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى) *. وهذا أيضا، من لطف الله تعالى
(٤٥٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 451 452 453 454 455 456 457 458 459 460 461 ... » »»