تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٤١٦
* (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفآء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال) * شبه تعالى الهدى، الذي أنزل على رسوله لحياة القلوب والأرواح، بالماء الذي أنزله لحياة الأشباح. وشبه ما في الهدى من النفع العام الكثير، الذي يضطر إليه العباد، بما في المطر من النفع العام الضروري، وشبه القلوب الحاملة للهدى وتفاوتها، بالأودية التي تسيل فيها السيول، فواد كبير، يسع ماء كثيرا، كقلب كبير، يسع علما كثيرا، وواد صغير، يأخذ ماء قليلا، كقلب صغير، يسع علما قليلا، وهكذا. وشبه ما يكون في القلوب من الشهوات والشبهات، عند وصول الحق إليها، بالزبد الذي يعلو الماء، ويعلو ما يوقد عليه النار من الحلية التي يراد تخليصها وسبكها، وأنها لا تزال فوق الماء طافية مكدرة له، حتى تذهب وتضمحل، ويبقى ما ينفع الناس من الماء الصافي، والحلية الخالصة. كذلك الشبهات والشهوات، لا يزال القلب يكرهها، ويجاهدها بالبراهين الصادقة، والإرادات الجازمة، حتى تذهب وتضمحل، ويبقى القلب خالصا صافيا، ليس فيه إلا ما ينفع الناس من العلم بالحق، وإيثاره، والرغبة فيه، فالباطل يذهب ويمحقه الحق * (إن الباطل كان زهوقا) *، وقال هنا: * (كذلك يضرب الله الأمثال) * ليتضح الحق من الباطل والهدى من الضلال. * (للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أول ئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد) * لما بين تعالى، الحق من الباطل، ذكر أن الناس على قسمين: مستجيب لربه، فذكر ثوابه، وغير مستجيب، فذكر عقابه فقال: * (للذين استجابوا لربهم) * أي: انقادت قلوبهم للعلم والإيمان، وجوارحهم للأمر والنهي، وصاروا موافقين لربهم فيما يريده منهم، فلهم * (الحسنى) * أي: الحالة الحسنة، والثواب الحسن. فلهم من الصفات أجلها، ومن المناقب أفضلها. ومن الثواب العاجل والآجل، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. * (والذين لم يستجيبوا له) * بعد ما ضرب لهم الأمثال، وبين لهم الحق، لهم الحالة غير الحسنة، و * (لو أن لهم ما في الأرض جميعا) * من ذهب وفضة وغيرها، * (ومثله معه لافتدوا به) * من عذاب يوم القيامة، ما تقبل منهم، وأنى لهم ذلك؟ * (أولئك لهم سوء الحساب) *، وهو الحساب الذي يأتي على كل ما أسلفوه، من عمل سيىء، وما ضيعوه من حقوق عباده قد كتب ذلك، وسطر عليهم، وقالوا: * (يا ويلتنا مال هذا الكتاب، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا) *. بعد هذا الحساب السئ * (مأواهم جهنم) * الجامعة لكل عذاب، من الجوع الشديد، والعطش الوجيع، والنار الحامية، والزقوم، والزمهرير، والضريع، وجميع ما ذكره الله من أصناف العذاب، * (وبئس المهاد) * أي: المقر، والمسكن، مسكنهم. * (أفمن يعلم أنمآ أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب * الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق * والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب * والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أول ئك لهم عقبى الدار * جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) * يقول تعالى: مفرقا بين أهل العلم والعمل وبين ضدهم: * (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق) * ففهم ذلك، وعمل به. * (كمن هو أعمى) * لا يعلم الحق، ولا يعمل به، فبينهما من الفرق، كما بين السماء والأرض، فحقيق بالعبد أن يتذكر ويتفكر، أي الفريقين أحسن حالا، وخير مآلا، فيؤثر طريقها، ويسلك خلف فريقها، ولكن ما كل أحد يتذكر ما ينفعه ويضره. * (إنما يتذكر أولو الألباب) * أي: أولو العقول الرزينة، والآراء الكاملة، الذين هم، لب العالم، وصفوة بني آدم، فإن سألت عن وصفهم، فلا تجد أحسن من وصف الله لهم بقوله: * (الذين يوفون بعهد الله) * الذي عهده إليهم، والذي عاهدهم عليه من القيام بحقوقه كاملة موفرة، فالوفاء بها، توفيتها حقها، من التنمية لها، والنصح فيها، * (و) * تمام الوفاء بها، أنهم * (لا ينقضون الميثاق) * أي: العهد الذي عاهدوا الله عليه، فدخل في ذلك، جميع المواثيق والعهود، والأيمان والنذور، التي يعقدها العباد. فلا يكون العبد من أولي الألباب، الذين لهم الثواب العظيم، إلا بأدائها كاملة، وعدم نقضها وبخسها. * (والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل) * وهذا عام في كل ما أمر الله بوصله، من الإيمان به، وبرسوله، ومحبته، ومحبة رسوله، والانقياد لعبادته وحده لا شريك له، ولطاعة رسوله. ويصلون آباءهم وأمهاتهم، ببرهم بالقول والفعل، وعدم عقوقهم، ويصلون الأقارب والأرحام، بالإحسان إليهم، قولا وفعلا. ويصلون ما بينهم وبين الأزواج، والأصحاب، والمماليك، بأداء حقهم، كاملا موفرا، من الحقوق الدينية والدنيوية. والسبب الذي يجعل العبد واصلا ما أمر الله به، أن يوصل خشية الله، وخوف يوم الحساب، ولهذا قال: * (ويخشون ربهم) * أي: يخافونه،
(٤١٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 411 412 413 414 415 416 417 418 419 420 421 ... » »»