تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٤٠٥
* (لا تثريب عليكم اليوم) * أي: لا أثرب عليكم ولا ألومكم * (يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) *، فسمح لهم سماحا تاما، من غير تعيير لهم على ذكر الذنب السابق، ودعا لهم بالمغفرة والرحمة، وهذا نهاية الإحسان، الذي لا يتأتى إلا من خواص الخلق، وخيار المصطفين. * (اذهبوا بقميصي ه ذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين * ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون * قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم * فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون * قالوا يأبانا استغفر لنا ذنوبنآ إنا كنا خاطئين * قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم) * أي: قال يوسف عليه السلام لإخوته: * (اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا) * لأن كل داء يداوى بضده، فهذا القميص لما كان فيه أثر ريح يوسف، الذي أودع قلب أبيه من الحزن، والشوق، ما الله به عليم أراد أن يشمه، فترجع إليه روحه، وتتراجع إليه نفسه، ويرجع إليه بصره، ولله في ذلك حكم وأسرار، لا يطلع عليها العباد، وقد اطلع يوسف من ذلك على هذا الأمر. * (وائتوني بأهلكم أجمعين) * أي: أولادكم وعشيرتكم، وتوابعكم كلهم، ليحصل تمام اللقاء، ويزول عنكم نكد المعيشة، وضنك الرزق. * (ولما فصلت العير) * عن أرض مصر، مقبلة إلى أرض فلسطين، شم يعقوب ريح القميص فقال: * (إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون) * أي: تسخرون مني، وتزعمون أن هذا الكلام صدر مني، من غير شعور، لأنه رأى منهم من التعجب من حاله، ما أوجب له هذا القول، فوقع ما ظنه بهم فقالوا: * (تالله إنك لفي ضلالك القديم) * أي: لا تزال تائها في بحر لجي لا تدري ما تقول. * (فلما أن جاء البشير) * بقرب الاجتماع بيوسف وإخوته وأبيهم، * (ألقاه) * أي: القميص * (على وجهه فارتد بصيرا) * أي: رجع إلى حاله الأولى بصيرا، بعد أن ابيضت عيناه من الحزن. فقال لمن حضره من أولاده وأهله، الذين كانوا يفندون رأيه، ويتعجبون منه منتصرا عليهم، مغتبطا بنعمة الله عليه: * (ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون) * حيث كنت مترجيا للقاء يوسف، مترقبا لزوال الهم والغم والحزن. فأقروا بذنبهم و * (قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين) * حيث فعلنا معك ما فعلنا. * (قال) * مجيبا لطلبتهم، ومسرعا لإجابتهم: * (سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم) * ورجائي به، أن يغفر لكم، ويرحمكم، ويتغمدكم برحمته، وقد قيل: إنه أخر الاستغفار لهم إلى وقت السحر الفاضل، ليكون أتم للاستغفار، وأقرب للإجابة. * (فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين * ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يأبت ه ذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجآء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم) * أي: * (فلما) * تجهز يعقوب وأولاده وأهلهم أجمعون، وارتحلوا من بلادهم، قاصدين الوصول إلى يوسف في مصر وسكناها، فلما وصلوا إليه، * (و) * (دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه) * أي: ضمهما إليه، واختصهما بقربه، وأبدى لهما من البر والإحسان، والتبجيل والإعظام شيئا عظيما، * (وقال) * لجميع أهله: * (ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين) * من جميع المكاره والمخاوف، فدخلوا في هذه الحال السارة، وزال عنهم النصب ونكد المعيشة، وحصل السرور والبهجة. * (ورفع أبويه على العرش) * أي: على سرير الملك، ومجلس العز، * (وخروا له سجدا) * أي: أبوه، وأمه، وإخوته، سجودا على وجه التعظيم والتبجيل والإكرام، * (وقال) * لما رأى هذه الحال، ورأى سجودهم له: * (يا أبت هذا تأويل رأيي من قبل) * حين رأى أحد عشر كوكبا، والشمس والقمر له ساجدين، فهذا وقوعها، الذي آلت إليه ووصلت * (قد جعلها ربي حقا) * فلم يجعلها أضغاث أحلام. * (وقد أحسن بي) * إحسانا جسيما * (إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو) *، وهذا من لطفه، وحسن خطابه، عليه السلام، حيث ذكر حاله في السجن، ولم يذكر حاله في الجب، لتمام عفوه عن إخوته، وأنه لا يذكر ذلك الذنب، وأن إتيانكم من البادية، من إحسان الله. فلم يقل: جاء بكم من الجوع والنصب، ولا قال: (أحسن بكم) بل قال: * (أحسن بي) *، جعل الإحسان، عائدا إليه، فتبارك من يختص برحمته من يشاء من عباده، ويهب لهم من لدنه رحمة، إنه هو الوهاب. * (من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي) * فلم يقل (نزغ الشيطان إخوتي) بل كأن الذنب والجهل، صدر من الطرفين، فالحمد لله، الذي أخزى الشيطان ودحره، وجمعنا بعد تلك الفرقة الشاقة. * (إن ربي لطيف لما يشاء) * يوصل بره وإحسانه إلى العبد، من حيث لا يشعر، ويوصله إلى المنازل الرفيعة من أمور يكرهها، * (إنه هو العليم) * الذي يعلم ظواهر الأمور وبواطنها، وسرائر العباد وضمائرهم، * (الحكيم) * في وضعه الأشياء مواضعها، وسوقه
(٤٠٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 400 401 402 403 404 405 406 407 408 409 410 ... » »»