تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٤١٣
* (و) * جعل فيها * (أنهارا) * تسقي الآدميين وبهائمهم وحروثهم، فأخرج بها من الأشجار والزروع والثمار، خيرا كثيرا ولهذا قال: * (ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين) * أي: صنفين، مما يحتاج إليه العباد. * (يغشي الليل النهار) * فتظلم الآفاق، فيسكن كل حيوان إلى مأواه، ويستريحون من التعب والنصب في النهار، ثم إذا قضوا مأربهم من النوم، غشي النهار الليل، فإذا هم مصبحون ينتشرون في مصالحهم وأعمالهم في النهار. * (ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) *، * (إن في ذلك لآيات) * على المطالب الإلهية * (لقوم يتفكرون) * فيها، وينظرون فيها نظرة اعتبار دالة على أن الذي خلقها ودبرها، وصرفها، هو الله الذي لا إله إلا هو، ولا معبود سواه، وأنه عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، وأنه القادر على كل شيء، الحكيم في كل شيء، المحمود على ما خلقه وأمر به، تبارك وتعالى. * (و) * من الآيات على كمال قدرته، وبديع صنعته، * (في الأرض قطع متجاورات وجنات) * فيها أنواع الأشجار * (من أعناب وزرع ونخيل) * وغير ذلك، والنخيل التي بعضها * (صنوان) * أي: عدة أشجار في أصل واحد، * (وغير صنوان) * بأن كان كل شجرة على حدتها، والجميع * (يسقى بماء واحد) * وأرضه واحدة * (ونفضل بعضها على بعض في الأكل) * لونا، وطعما، ونفعا، ولذة؛ فهذه أرض طيبة، تنبت الكلأ والعشب الكثير، والأشجار والزروع، وهذه أرض تلاصقها، لا تنبت كلأ، ولا تمسك ماء. وهذه تمسك الماء، ولا تنبت الكلأ، وهذه تنبت الزرع والأشجار، ولا تنبت الكلأ، وهذه الثمرة حلوة، وهذه مرة، وهذه بين ذلك. فهل هذا التنوع، في ذاتها، وطبيعتها؟ أم ذلك تقدير العزيز الرحيم؟ * (إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) * أي: لقوم لهم عقول تهديهم إلى ما ينفعهم، وتقودهم إلى ما يرشدون به ويعقلون عن الله، وصاياه وأوامره ونواهيه، وأما أهل الإعراض، وأهل البلادة فهم في ظلماتهم يعمهون، وفي غيهم يترددون، لا يهتدون إلى ربهم سبيلا، ولا يعون له قيلا. * (وإن تعجب فعجب قولهم أإذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد أول ئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأول ئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * يحتمل أن معنى قوله: * (وإن تعجب) * من عظمة الله تعالى، وكثرة أدلة التوحيد، فإن العجب مع هذا إنكار المكذبين، وتكذيبهم بالبعث، وقولهم: * (أإذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد) * أي: هذا بعيد في غاية الامتناع بزعمهم، أنهم بعد ما كانوا ترابا، أن الله يعيدهم، فإنهم من جهلهم قاسوا قدرة الخالق بقدرة المخلوق. فلما رأوا هذا ممتنعا، في قدرة المخلوق، ظنوا أنه ممتنع على قدرة الخالق، ونسوا أن الله خلقهم أول مرة، ولم يكونوا شيئا. ويحتمل أن معناه: وإن تعجب من قولهم وتكذيبهم للبعث، فإن ذلك من العجائب، فإن الذي توضح له الآيات، ويرى من الأدلة القاطعة على البعث، ما لا يقبل الشك والريب، ثم ينكر ذلك، فإن قوله من العجائب. ولكن ذلك لا يستغرب على * (أولئك الذين كفروا بربهم) * وجحدوا وحدانيته، وهي أظهر الأشياء وأجلاها، * (وأولئك الأغلال) * المانعة لهم من الهدى * (في أعناقهم) * حيث دعوا إلى الإيمان، فلم يؤمنوا، وعرض عليهم الهدى فلم يهتدوا، فقلبت قلوبهم وأفئدتهم، عقوبة على أنهم لم يؤمنوا به أول مرة، * (وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * لا يخرجون منها أبدا. * (ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب) * يخبر تعالى، عن جهل المكذبين لرسوله، المشركين به، الذين وعظوا فلم يتعظوا، وأقيمت عليهم الأدلة، فلم ينقادوا لها، بل جاهروا بالإنكار، واستدلوا بحلم الله الواحد القهار عنهم، وعدم معاجلتهم بذنوبهم، أنهم على حق، وجعلوا يتعجلون الرسول بالعذاب، ويقول قائلهم: * (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم) *. * (و) * الحال أنه * (قد خلت من قبلهم المثلات) * أي: وقائع الله وأيامه في الأمم المكذبين، أفلا يتفكرون في حالهم، ويتركون جهلهم، * (وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم) * أي: لا يزال خيره إليهم، وإحسانه، وبره، وعفوه نازلا إلى العباد، وهم لا يزال شركهم، وعصيانهم إليه صاعدا. يعصونه فيدعوهم إلى بابه، ويجرمون، فلا يحرمهم خيره وإحسانه. فإن تابوا إليه، فهو حبيبهم، لأنه يحب التوابين، ويحب المتطهرين، وإن لم يتوبوا، فهو طبيبهم، يبتليهم بالمصائب،
(٤١٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 408 409 410 411 412 413 414 415 416 417 418 ... » »»