تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٤٢٧
* (ربي إنهن أضللن كثيرا من الناس) * أي: ضلوا بسببها، * (فمن تبعني) * على ما جئت به من التوحيد والإخلاص لله رب العالمين * (فإنه مني) * لتمام الموافقة ومن أحب قوما واتبعهم، التحق بهم. * (ومن عصاني فإنك غفور رحيم) * وهذا من شفقة الخليل، عليه الصلاة والسلام حيث دعا للعاصين بالمغفرة والرحمة من الله، والله تبارك وتعالى، أرحم منه بعباده، لا يعذب إلا من تمرد عليه. * (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم) * وذلك أنه أتى ب (هاجر) أم إسماعيل وبابنها إسماعيل، عليه الصلاة والسلام، وهو في الرضاع، من الشام، حتى وضعهما في مكة، وهي إذ ذاك ليس فيها سكن، ولا داع، ولا مجيب، فلما وضعهما، دعا ربه بهذا الدعاء، فقال متضرعا متوكلا على ربه: * (ربنا إني أسكنت من ذريتي) * أي: لا كل ذريتي، لأن إسحق في الشام، وباقي بنيه كذلك، وإنما أسكن في مكة، إسماعيل وذريته، وقوله: * (بواد غير ذي زرع) * أي: لأن أرض مكة لم يكن فيها ماء. * (ربنا ليقيموا الصلاة) * أي : اجعلهم موحدين مقيمين الصلاة، لأن إقامة الصلاة من أخص وأفضل العبادات الدينية، فمن أقامها، كان مقيما لدينه، * (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم) * أي: تحبهم، وتحب الموضع الذي هم ساكنون فيه. فأجاب الله دعاءه، فأخرج من ذرية إسماعيل، محمدا صلى الله عليه وسلم، حتى دعا ذريته إلى الدين الإسلامي، وإلى ملة أبيهم إبراهيم، فاستجابوا له وصاروا مقيمي الصلاة. وافترض الله حج هذا البيت، الذي أسكن به ذرية إبراهيم، وجعل فيه سرا عجيبا، جاذبا للقلوب، فهي تحجه، ولا تقضي منه وطرا على الدوام، بل كلما أكثر العبد التردد إليه، ازداد شوقه، وعظم ولعه وتوقه، وهذا سر إضافته تعالى إلى نفسه المقدسة. * (وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون) * فأجاب الله دعاءه، فصار يجبى إليه، ثمرات كل شيء، فإنك ترى مكة المشرفة كل وقت، والثمار فيها متوفرة، والأرزاق تتوالى إليها من كل جانب. * (ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن) * أي: أنت أعلم بنا منا، فنسألك من تدبيرك وتربيتك لنا، أن تيسر لنا من الأمور التي نعلمها، والتي لا نعلمها، ما هو مقتضى علمك ورحمتك، * (وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء) * ومن ذلك هذا الدعاء الذي لم يقصد به الخليل إلا الخير، وكثرة الشكر لله رب العالمين. * (الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق) * فذلك من أكبر النعم، وكونه على الكبر، في حال الإياس من الأولاد، نعمة أخرى، وكونهم أنبياء صالحين، أجل وأفضل، * (إن ربي لسميع الدعاء) * أي: لقريب الإجابة، ممن دعاه، وقد دعوته، ولم يخيب رجائي، ثم دعا لنفسه ولذريته. فقال: * (رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب) *، فاستجاب الله له في ذلك كله، إلا أن دعاءه لأبيه، إنما كان من موعدة وعده إياه، فلما تبين له أنه عدو لله، تبرأ منه. * (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار * مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هوآء) * ثم قال تعالى: * (ولا تحسبن الله غافلا) * إلى * (وأفئدتهم هواء) *. هذا وعيد شديد للظالمين، وتسلية للمظلومين. يقول تعالى: * (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون) * حيث أمهلهم وأدر عليهم الأرزاق، وتركهم يتقلبون في البلاد، آمنين مطمئنين، فليس في هذا ما يدل على حسن حالهم، فإن الله يملي للظالم ويمهله، ليزداد إثما، حتى إذا أخذه، لم يفلته * (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد) *، والظلم ههنا يشمل الظلم فيما بين العبد وربه، وظلمه لعباد الله، * (إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار) * أي: لا تطرف من شدة ما ترى، من الأهوال وما أزعجها من القلاقل. * (مهطعين) * أي: مسرعين إلى إجابة الداعي حين يدعوهم إلى الحضور بين يدي الله للحساب، لا امتناع لهم ولا محيص، ولا ملجأ، * (مقنعي رؤوسهم) * أي: رافعيها قد غلت أيديهم إلى الأذقان، فارتفعت لذلك، رؤوسهم، * (لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء) * أي: أفئدتهم فارغة من قلوبهم، قد صعدت إلى الحناجر، لكنها مملوءة من كل هم وغم، وحزن وقلق. * (وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنآ أخرنآ إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال * وسكنتم في مس كن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال * وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال) * يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: * (وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب) * أي: صف لهم تلك الحال، وحذرهم من الأعمال الموجبة للعذاب، الذي حين يأتي في شدائده وقلاقله، * (فيقول الذين ظلموا) * بالكفر والتكذيب، وأنواع المعاصي، نادمين على ما فعلوا، سائلين للرجعة في غير وقتها، * (ربنا أخرنا إلى أجل قريب) * أي: ردنا إلى الدنيا، فإنا قد أبصرنا، * (نجب دعوتك) * والله يدعو إلى دار السلام * (ونتبع الرسل) * وهذا كله، لأمل التخلص من العذاب الأليم، وإلا فهم كذبة في هذا الوعد * (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) *. ولهذا يوبخون ويقال لهم: * (أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال) * عن الدنيا، وانتقال إلى الآخرة، فها قد تبين لكم حنثكم في إقسامكم
(٤٢٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 422 423 424 425 426 427 428 429 430 431 432 ... » »»