ويعمل الأسباب التي تنفعه، في دينه ودنياه. ومنها: حسن تدبير يوسف، لما تولى خزائن الأرض، حتى كثرت عندهم الغلات جدا، وحتى صار أهل الأقطار، يقصدون مصر لطلب الميرة منها، لعلمهم بوفورها فيها، وحتى إنه كان لا يكيل لأحد إلا مقدار الحاجة الخاصة أو أقل، لا يزيد كل قادم على كيل بعير وحمله. ومنها: مشروعية الضيافة، وأنها من سنن المرسلين، وإكرام الضيف لقول يوسف لإخوته: * (ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين) *. ومنها: أن سوء الظن مع وجود القرائن الدالة عليه غير ممنوع ولا محرم. فإن يعقوب قال لأولاده بعد ما امتنع من إرسال يوسف معهم حتى عالجوه أشد المعالجة، ثم قال لهم بعد ما أتوه، وزعموا أن الذئب أكله * (بل سولت لكم أنفسكم أمرا) *، قال لهم في الأخ الآخر: * (هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل) *، ثم لما احتبسه يوسف عنده، وجاء إخوته لأبيهم قال لهم: * (بل سولت لكم أنفسكم أمرا) * فهم في الأخيرة وإن لم يكونوا مفرطين فقد جرى منهم، ما أوجب لأبيهم، أن قال ما قال، من غير إثم عليه ولا حرج. ومنها: أن استعمال الأسباب الدافعة للعين وغيرها من المكاره، أو الرافعة لها بعد نزولها، غير ممنوع، بل جائز، وإن كان لا يقع شيء إلا بقضاء وقدر. فإن الأسباب أيضا، من القضاء والقدر لأمر يعقوب، حيث قال لبنيه: * (يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة) *. ومنها: جواز استعمال المكايد التي يتوصل بها إلى الحقوق، وأن العلم بالطرق الخفية الموصلة، إلى مقاصدها، مما يحمد عليه العبد، وإنما الممنوع، التحيل على إسقاط واجب، أو فعل محرم. ومنها: أنه ينبغي لمن أراد أن يوهم غيره، بأمر لا يحب أن يطلع عليه، أن يستعمل المعاريض القولية والفعلية، المانعة من الكذب، كما فعل يوسف، حيث ألقى الصواع في رحل أخيه، ثم استخرجها منه، موهما أنه سارق، وليس فيه إلا القرينة الموهمة لإخوته، وقال بعد ذلك: * (معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده) * ولم يقل (من سرق متاعنا) وكذلك لم يقل (إنا وجدنا متاعنا عنده) بل أتى بكلام عام، يصلح له ولغيره، وليس في ذلك محذور، وإنما فيه إيهام أنه سارق، ليحصل المقصود الحاضر، وأن يبقى عنده أخوه، وقد زال عن الأخ هذا الإيهام، بعد ما تبينت الحال. ومنها: أنه لا يجوز للإنسان أن يشهد إلا بما علمه، وتحققه بمشاهدة، أو خبر من يثق به، وتطمئن إليه النفس لقولهم: * (وما شهدنا إلا بما علمنا) *. ومنها: هذه المحنة العظيمة، التي امتحن الله بها نبيه وصفيه، يعقوب عليه السلام، حيث قضى بالتفريق، بينه وبين ابنه يوسف، الذي لا يقدر على فراقه ساعة واحدة، ويحزنه ذلك أشد الحزن، فحصل التفريق بينه وبينه، مدة طويلة، لا تقصر عن ثلاثين سنة، ويعقوب لم يفارق الحزن قلبه في هذه المدة * (وابيضت عيناه من الحزن فهم كظيم) *. ثم ازداد به الأمر شدة، حين صار الفراق بينه وبين ابنه الثاني، شقيق يوسف، هذا وهو صابر لأمر الله، محتسب الأجر من الله، قد وعد من نفسه الصبر الجميل، ولا شك أنه وفى بما وعد به. ولا ينافي ذلك، قوله: * (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله) * فإن الشكوى إلى الله، لا تنافي الصبر، وإنما الذي ينافيه، الشكوى إلى المخلوقين. ومنها: أن الفرج مع الكرب؛ وأن مع العسر يسرا، فإنه لما طال الحزن على يعقوب، واشتد به إلى أنهى ما يكون، ثم حصل الاضطرار لآل يعقوب، ومسهم الضر، أذن الله حينئذ، بالفرج، فحصل التلاقي، في أشد الأوقات إليه حاجة واضطرارا، فتم بذلك الأجر، وحصل السرور، وعلم من ذلك، أن الله يبتلي أولياءه بالشدة والرخاء، والعسر واليسر ليمتحن صبرهم وشكرهم، ويزداد بذلك إيمانهم ويقينهم وعرفانهم. ومنها: جواز إخبار الإنسان بما يجد، وما هو فيه من مرض، أو فقر ونحوهما، على غير وجه التسخط، لأن إخوة يوسف قالوا: * (يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر) * ولم ينكر عليهم يوسف. ومنها: فضيلة التقوى، وأن كل خير في الدنيا والآخرة، فمن آثار التقوى والصبر، وأن عاقبة أهلهما، أحسن العواقب لقوله: * (قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) *. ومنها: أنه ينبغي لمن أنعم الله عليه بنعمة، بعد شدة، وفقر، وسوء حال، أن يعترف بنعمة الله عليه، وأن لا يزال ذاكرا حاله الأولى، ليحدث لذلك شكرا، كلما ذكرها، لقول يوسف عليه السلام: * (وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو) *.
(٤١١)