الأحاديث) *. ومن المناسبة في رؤيا الفتيين، أن الرؤيا الأولى، التي رأى صاحبها، أنه يعصر خمرا، أن الذي يعصر خمرا في العادة، يكون خادما لغيره، والعصر يقصد لغيره، فلذلك أوله بما يؤول إليه، أنه يسقي ربه، وذلك متضمن لخروجه من السجن. وأول رؤيا الآخر، أي: أنه يحمل فوق رأسه خبزا، تأكل الطير منه، بأن جلدة رأسه ولحمه، وما في ذلك من المخ، أنه هو الذي يحمل، وأنه سيبرز للطيور، بمحل تتمكن من الأكل من رأسه، فرأى من حاله أنه سيقتل ويصلب بعد موته فيبرز للطيور فتأكل من رأسه، وذلك لا يكون إلا بالصلب بعد القتل. وأول رؤيا الملك، للبقرات والسنبلات، بالسنين المخصبة، والسنين المجدبة، ووجه المناسبة، أن الملك، به ترتبط أحوال الرعية ومصالحها، وبصلاحه تصلح، وبفساده تفسد، وكذلك السنون، بها صلاح أحوال الرعية، واستقامة أمر المعاش، أو عدمه. وأما البقر، فإنها تحرث الأرض عليها، ويستقى عليها الماء، وإذا أخصبت السنة، سمنت، وإذا أجدبت، صارت عجافا، وكذلك السنابل في الخصب، تكثر وتخضر، وفي الجدب، تقل وتيبس وهي أفضل غلال الأرض. ومنها: ما فيها من الأدلة، على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، حيث قص على قومه هذه القصة الطويلة، وهو لم يقرأ كتب الأولين، ولا دارس أحدا. يراه قومه، بين أظهرهم، صباحا ومساء، وهو أمي لا يخط ولا يقرأ، وهي موافقة، لما في الكتب السابقة، وما كان لديهم، إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون. ومنها: أنه ينبغي البعد عن أسباب الشر، وكتمان ما تخشى مضرته، لقول يعقوب ليوسف: * (لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا) *، ومنها: أنه يجوز ذكر الإنسان بما يكره على وجه النصيحة لغيره لقوله: * (فيكيدوا لك كيدا) *. ومنها: أن نعمة الله على العبد، نعمة على من يتعلق به، من أهل بيته، وأقاربه، وأصحابه، وأنه ربما شملهم، وحصل لهم ما حصل له سببه، كما قال يعقوب في تفسيره لرؤيا يوسف * (وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب) *، ولما تمت النعمة على يوسف، حصل لآل يعقوب، من العز والتمكين في الأرض، والسرور والغبطة، ما حصل بسبب يوسف. ومنها: أن العدل مطلوب في كل الأمور، لا في معاملة السلطان رعيته فقط، ولا فيما دونه، بل حتى في معاملة الوالد لأولاده، في المحبة والإيثار، وغيره، وأن في الإخلال بذلك، يختل عليه الأمر، وتفسد الأحوال. ولهذا، لما قدم يعقوب يوسف في المحبة، وآثره على إخوته، جرى منهم ما جرى على أنفسهم، وعلى أبيهم وأخيهم. ومنها: الحذر من شؤم الذنوب، وأن الذنب الواحد يستتبع ذنوبا متعددة، ولا يتم لفاعله، إلا بعد جرائم. فإخوة يوسف، لما أرادوا التفريق بينه وبين أبيه، احتالوا لذلك بأنواع من الحيل، وكذبوا عدة مرات، وزوروا على أبيهم في القميص والدم، الذي فيه، وفي إتيانهم عشاء يبكون، ولا تستبعد أنه قد كثر البحث فيها، في تلك المدة، بل لعل ذلك اتصل إلى أن اجتمعوا بيوسف، وكلما صار البحث، حصل من الإخبار بالكذب، والافتراء، ما حصل، وهذا شؤم الذنب، وآثاره التابعة، والسابقة، واللاحقة. ومنها: أن العبرة في حال العبد، بكمال النهاية، لا بنقص البداية، فإن أولاد يعقوب، عليه السلام، جرى منهم ما جرى، في أول الأمر، مما هو أكبر أسباب النقص واللوم، ثم انتهى أمرهم إلى التوبة النصوح، والسماح التام، من يوسف، ومن أبيهم، والدعاء بالمغفرة والرحمة، وإذا سمح العبد عن حقه، فالله خير الراحمين. ولهذا في أصح الأقوال أنهم كانوا أنبياء لقوله تعالى: * (وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط) *، والأسباط هم: أولاد يعقوب الاثنا عشر، وذريتهم. ومما يدل على ذلك، أن في رؤيا يوسف، أنه رآهم كواكب نيرة، والكواكب فيها النور والهداية، وذلك من صفات الأنبياء، فإن لم يكونوا أنبياء، فإنهم علماء هداة. ومنها: ما من الله به على يوسف، عليه الصلاة والسلام، من العلم، والحلم، ومكارم الأخلاق، والدعوة إلى الله، وإلى دينه، وعفوه عن إخوته الخاطئين، عفوا بادرهم به، وتم ذلك بأن لا يثرب عليهم، ولا يعيرهم به. ثم بره العظيم بأبويه، وإحسانه لإخوته، بل لعموم الخلق. ومنها: أن بعض الشر، أهون من بعض، وارتكاب أخف الضررين، أولى من ارتكاب أعظمهما، فإن إخوة يوسف، لما اتفقوا على قتل يوسف، أو إلقائه أرضا وقال قائل منهم: * (لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب) * كان قوله أحسن منهم وأخف، وبسببه خف عن إخوته الإثم الكبير. ومنها: أن الشيء إذا تداولته الأيدي، وصار من جملة الأموال، ولم يعلم أنه كان على غير الشرع، أنه
(٤٠٨)