تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٤١٠
ومنها: أنه كما على العبد عبودية لله في الرخاء، فعليه عبودية له في الشدة. ف (يوسف) عليه السلام، لم يزل يدعو إلى الله، فلما دخل السجن، استمر على ذلك، ودعا الفتيين إلى التوحيد، ونهاهما عن الشرك. ومن فطنته عليه السلام، أنه لما رأى فيهما قابلية لدعوته، حيث ظنا فيه الظن الحسن وقالا: * (إنا نراك من المحسنين) * وأتياه لأن يعبر لهما رؤياهما، فرآهما متشوقين لتعبيرها عنده رأى ذلك فرصة، فانتهزها، فدعاهما إلى الله تعالى، قبل أن يعبر رؤياهما ليكون أنجح لمقصوده، وأقرب لحصول مطلوبه. وبين لهما أولا، أن الذي أوصله إلى الحال التي رأياه فيها، من الكمال والعلم، إيمانه، وتوحيده، وتركه ملة من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، وهذا دعاء لهما بلسان الحال، ثم دعاهما بالمقال، وبين فساد الشرك، وبرهن عليه، وحقيقة التوحيد، وبرهن عليه. ومنها: أنه يبدأ بالأهم فالأهم، وأنه إذا سئل المفتي، وكان السائل في حاجة أشد لغير ما سأل عنه، أنه ينبغي له أن يعلمه ما يحتاج إليه قبل أن يجيب سؤاله، فإن هذا علامة على نصح المعلم وفطنته، وحسن إرشاده وتعليمه. فإن يوسف لما سأله الفتيان عن الرؤيا قدم لهما قبل تعبيرها دعوتهما إلى الله وحده لا شريك له. ومنها: أن من وقع في مكروه وشدة، لا بأس أن يستعين بمن له قدرة على تخليصه، أو الإخبار بحاله، وأن هذا، لا يكون شكوى للمخلوق فإن هذا، من الأمور العادية، التي جرى العرف باستعانة الناس، بعضهم ببعض، ولهذا قال يوسف، للذي ظن أنه ناج من الفتيين: * (اذكرني عند ربك) *. ومنها: أنه ينبغي ويتأكد على المعلم، استعمال الإخلاص التام في تعليمه وأن لا يجعل تعليمه، وسيلة لمعاوضة أحد في مال، أو جاه، أو نفع، وأن لا يمتنع من التعليم، أو لا ينصح فيه، إذا لم يفعل السائل ما كلفه به المعلم، فإن يوسف عليه السلام قد قال، ووصى أحد الفتيين، أن يذكره عند ربه، فلم يذكره ونسي، فلما بدت حاجتهم إلى سؤال يوسف، أرسلوا ذلك الفتى، وجاءه سائلا مستفتيا عن تلك الرؤيا، فلم يعنفه يوسف، ولا وبخه، لتركه ذكره بل أجابه عن سؤاله، جوابا تاما من كل وجه. ومنها: أنه ينبغي للمسؤول أن يدل السائل على أمر ينفعه، مما يتعلق بسؤاله، ويرشده إلى الطريق، التي ينتفع بها، في دينه ودنياه، فإن هذا من كمال نصحه وفطنته، وحسن إرشاده، فإن يوسف، عليه السلام، لم يقتصر على تعبير رؤيا الملك، بل دلهم مع ذلك على ما يصنعون في تلك السنين المخصبات، من كثرة الزرع، وكثرة جبايته. ومنها: أنه لا يلام الإنسان على السعي في دفع التهمة عن نفسه، وطلب البراءة لها، بل يحمد على ذلك، كما امتنع يوسف عن الخروج من السجن حتى تتبين لهم براءته بحال النسوة، اللاتي قطعن أيديهن. ومنها: فضيلة العلم، علم الأحكام والشرع، وعلم تعبير الرؤيا، وعلم التدبير والتربية؛ وأنه أفضل من الصورة الظاهرة، ولو بلغت في الحسن جمال يوسف، فإن يوسف بسبب جماله حصلت له تلك المحنة، والسجن، وبسبب علمه، حصل له العز والرفعة، والتمكين في الأرض، فإن كان خير في الدنيا والآخرة، من آثار العلم وموجباته. ومنها: أن علم التعبير، من العلوم الشرعية، وأنه يثاب الإنسان على تعلمه وتعليمه، وأن تعبير الرؤيا، داخل في الفتوى، لقوله للفتيين: * (قضي الأمر الذي فيه تستفتيان) * وقال الملك: * (أفتوني في رؤياي) *، وقال الفتى ليوسف: * (أفتنا في سبع بقرات) * الآيات، فلا يجوز الإقدام على تعبير الرؤيا، من غير علم. ومنها: أنه لا بأس أن يخبر الإنسان عما في نفسه، من صفات الكمال من علم أو عمل، إذا كان في ذلك مصلحة، ولم يقصد به العبد الرياء، وسلم من الكذب، لقول يوسف: * (اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) *، وكذلك لا تذم الولاية، إذا كان المتولي فيها يقوم بما يقدر عليه من حقوق الله، وحقوق عباده، وأنه لا بأس بطلبها، إذا كان أعظم كفاءة من غيره. وإنما الذي يذم، إذا لم يكن فيه كفاية، أو كان موجودا غيره مثله، أو أعلى منه، أو لم يرد بها إقامة أمر الله، فبهذه الأمور، ينهى عن طلبها، والتعرض لها. ومنها: أن الله واسع الجود والكرم، يجود على عبده، بخير الدنيا والآخرة، وأن خير الآخرة له سببان: الإيمان، والتقوى. وأنه خير من ثواب الدنيا وملكها، وأن العبد ينبغي له أن يدعو نفسه، ويشوقها لثواب الله، ولا يدعها تحزن، إذا رأت زينة أهل الدنيا ولذاتها، وهي غير قادرة عليها، بل يسليها بثواب الله الأخروي، وفضله العظيم لقوله تعالى: * (ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون) *. ومنها: أن جباية الأرزاق إذا أريد بها التوسعة على الناس، من غير ضرر يلحقهم لا بأس بها، لأن يوسف أمرهم بجباية الأرزاق والأطعمة، في السنين المخصبات، للاستعداد للسنين المجدبة، وأن هذا غير مناقض للتوكل على الله، بل يتوكل العبد على الله،
(٤١٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 405 406 407 408 409 410 411 412 413 414 415 ... » »»