إزالة التهمة، التي رموا بها عنهم، فقالوا في هذه الحال: * (ماذا تفقدون) * ولم يقولوا: (ما الذي سرقنا) لجزمهم بأنهم برآء من السرقة. * (قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير) * أي: أجرة له، على وجدانه * (وأنا به زعيم) * أي: كفيل، وهذا يقوله المتفقد. * (قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض) * بجميع أنواع المعاصي، * (وما كنا سارقين) * فإن السرقة، من أكبر أنواع الفساد في الأرض، وإنما أقسموا على علمهم، أنهم ليسوا مفسدين ولا سارقين، لأنهم عرفوا أنهم سبروا من أحوالهم ما يدلهم على عفتهم وورعهم، وأن هذا الأمر لا يقع منهم بعلم من اتهموهم، وهذا أبلغ في نفي التهمة، من أن لو قالوا: (تالله لم نفسد في الأرض ولم نسرق). * (قالوا فما جزاؤه) * أي: جزاء هذا الفعل * (إن كنتم كاذبين) * بأن كان معكم؟ * (قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو) * أي الموجود في رحله * (جزاؤه) * بأن يتملكه صاحب السرقة، وكان هذا في دينهم أن السارق إذا ثبتت عليه السرقة، كان ملكا لصاحب المال المسروق، ولهذا قالوا: * (كذلك نجزي الظالمين) *. * (فبدأ) * المفتش * (بأوعيتهم قبل وعاء أخيه) * وذلك لتزول الريبة التي يظن أنها فعلت بالقصد، * (ثم) * لما لم يجد في أوعيتهم شيئا * (استخرجها من وعاء أخيه) * ولم يقل (وجدها، أو سرقها أخوه) مراعاة للحقيقة الواقعة. فحينئذ تم ليوسف ما أراد من بقاء أخيه عنده، على وجه لا يشعر به إخوته، قال تعالى: * (كذلك كدنا ليوسف) * أي: يسرنا له هذا الكيد، الذي توصل به إلى أمر غير مذموم * (ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك) * لأنه ليس من دينه أن يتملك السارق، وإنما له عندهم جزاء آخر، فلو ردت الحكومة إلى دين الملك، لم يتمكن يوسف من إبقاء أخيه عنده، ولكنه جعل الحكم منهم، ليتم له ما أراد. قال تعالى: * (نرفع درجات من نشاء) * بالعلم النافع، ومعرفة الطرق الموصلة إلى مقصدها، كما رفعنا درجات يوسف، * (وفوق كل ذي علم عليم) * فكل عالم، فوقه من هو أعلم منه حتى ينتهي العلم إلى علام الغيب والشهادة. فلما رأى إخوة يوسف ما رأوا * (قالوا إن يسرق) * هذا الأخ، فليس هذا غريبا عنه، * (فقد سرق أخ له من قبل) * يعنون: يوسف عليه السلام، ومقصودهم تبرئة أنفسهم وأن هذا وأخاه قد يصدر منهم ما يصدر من السرقة، وهما ليسا شقيقين لنا. وفي هذا من الغض عليهما ما فيه، ولهذا: أسرها يوسف في نفسه * (ولم يبدها لهم) * أي: لم يقابلهم على ما قالوه بما يكرهون، بل كظم الغيظ، وأسر الأمر في نفسه، و * (قال) * في نفسه * (أنتم شر مكانا) * حيث ذممتمونا بما أنتم على أشر منه، * (والله أعلم بما تصفون) * منا، من وصفنا بالسرقة، يعلم الله أنا برآء منها. ثم سلكوا معه، مسلك التملق، لعله يسمح لهم بأخيهم. * (قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا) * أي: وإنه لا يصبر عنه، وسيشق عليه فراقه، * (فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين) * فأحسن إلينا وإلى أبينا بذلك. * (قال) * يوسف * (معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده) * أي: هذا ظلم منا، لو أخذنا البريء، بذنب من وجدنا متاعنا عنده، ولم يقل (من سرق) كل هذا تحرز من الكذب، * (إنا إذا) * أي: إن أخذنا غير من وجد في رحله * (لظالمون) * حيث وضعنا العقوبة في غير موضعها. * (فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم) * أي: فلما استيأس إخوة يوسف من يوسف أن يسمح لهم بأخيهم * (خلصوا نجيا) * أي: اجتمعوا وحدهم، ليس معهم غيرهم، وجعلوا يتناجون فيما بينهم، * (قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله) * في حفظه، وأنكم تأتون به إلا أن يحاط بكم * (ومن قبل ما فرطتم في يوسف) *، فاجتمع عليكم الأمران، تفريطكم السابق في يوسف، وعدم إتيانكم بأخيه باللاحق، فليس لي وجه أواجه به أبي. * (فلن أبرح الأرض) * أي: سأقيم في هذه الأرض، ولا أزال بها * (حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي) * أي: يقدر لي المجيء وحدي، أو مع أخي * (وهو خير الحاكمين) *. ثم وصاهم بما يقولون لأبيهم فقال: * (ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق) * أي: وأخذ بسرقته، ولم يحصل لنا أن نأتيك به، مع ما بذلنا من الجهد في ذلك. والحال، أنا ما شهدنا بشيء لم نعلمه، وإنما شهدنا بما علمنا، لأننا رأينا الصواع استخرج من رحله، * (وما كنا للغيب حافظين) * أي: لو كنا نعلم الغيب، لما حرصنا، وبذلنا المجهود في
(٤٠٣)