تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٤٠٤
ذهابه معنا، ولما أعطيناك عهودنا ومواثيقنا، فلم نظن أن الأمر، سيبلغ ما بلغ. * (واسأل) * إن شككت في قولنا * (القرية التي كنا فيها والعبر التي أقبلنا فيها) * فقد اطلعوا على ما أخبرناك به * (وإنا لصادقون) * لم نكذب، ولم نغير، ولم نبدل، بل هذا الواقع. فلما رجعوا إلى أبيهم، وأخبروه بهذا الخبر، اشتد حزنه، وتضاعف كمده، واتهمهم أيضا في هذه القضية، كما اتهمهم في الأولى، و * (قال: بل سلوت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل) * أي: ألجأ في ذلك، إلى الصبر الجميل، الذي لا يصحبه تسخط، ولا جزع، ولا شكوى للخلق، ثم لجأ إلى حصول الفرج، لما رأى أن الأمر اشتد، والكربة انتهت فقال: * (عسى الله أن يأتيني بهم جميعا) * أي: يوسف و (بنيامين)، وأخوهم الكبير، الذي أقام في مصر. * (إنه هو العليم) * الذي يعلم حالي، واحتياجي إلى تفريجه ومنته، واضطراري إلى إحسانه، * (الحكيم) * الذي جعل لكل شيء قدرا، ولكل أمر منتهى، بحسب ما اقتضته حكمته الربانية. * (وتولى عنهم وقال يأسفا على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم * قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين * قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون) * أي: وتولى يعقوب عليه الصلاة والسلام عن أولاده، بعدما أخبروه هذا الخبر، واشتد به الأسف والأسى، وابيضت عيناه من الحزن، الذي في قلبه، والكمد الذي أوجب له كثرة البكاء، حيث ابيضت عيناه من ذلك. * (فهو كظيم) * أي: ممتلئ القلب من الحزن الشديد، * (وقال يا أسفى على يوسف) * أي: ظهر منه ما كمن من الهم القديم، والشوق المقيم، وذكرته هذه المصيبة الخفيفة، بالنسبة للأولى، المصيبة الأولى، فقال له أولاده متعجبين من حاله: * (تالله تفتأ تذكر يوسف) * أي: لا تزال تذكر يوسف في جميع أحوالك، * (حتى تكون حرضا) * أي: فانيا لا حراك فيك، ولا قدرة على الكلام. * (أو تكون من الهالكين) * أي: لا تترك ذكره مع قدرتك على ذكره أبدا. * (قال) * يعقوب * (إنما أشكو بثي) * أي: ما أبث من الكلام * (وحزني) * الذي في قلبي * (إلى الله) * وحده لا إليكم ولا إلى غيركم من الخلق فقولوا ما شئتم * (وأعلم من الله ما لا تعلمون) * من أنه سيردهم علي ويقر عيني بالاجتماع بهم. * (يبني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون * فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينآ إن الله يجزي المتصدقين * قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون * قالوا أإنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وه ذا أخي قد من الله علينآ إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين * قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين * قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) * أي: قال يعقوب عليه السلام لبنيه: * (يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه) *، أي: احرصوا واجتهدوا على التفتيش عنهما * (ولا تيأسوا من روح الله) *، فإن الرجاء، يوجب للعبد، السعي والاجتهاد، فيما رجاه، والإياس: يوجب له التثاقل والتباطؤ، وأولى ما رجا العباد، فضل الله وإحسانه، ورحمته، وروحه، * (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) *، فإنهم لكفرهم يستبعدون رحمته، ورحمته بعيدة منهم، فلا تتشبهوا بالكافرين. ودل هذا على أنه بحسب إيمان العبد، يكون رجاؤه لرحمة الله وروحه. فذهبوا * (فلما دخلوا عليه) * أي: على يوسف * (قالوا) * متضرعين إليه: * (يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا) * أي: قد اضطررنا نحن وأهلنا * (وجئنا ببضاعة مزجاة) * أي: مدفوعة مرغوب عنها، لقلتها، وعدم وقوعها الموقع، * (فأوف لنا الكيل) * أي: مع عدم وفاء العرض، وتصدق علينا بالزيادة عن الواجب. * (إن الله يجزي المتصدقين) * بثواب الدنيا والآخرة. فلما انتهى الأمر، وبلغ أشده، رق لهم يوسف رقة شديدة، وعرفهم بنفسه، وعاتبهم. ف * (قال) *: * (هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه) *. أما يوسف فظاهر فعلهم فيه، وأما أخوه، فلعله والله أعلم قولهم: * (إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل) *، أو أن الحادث الذي فرق بينه وبين أبيه، هم السبب فيه، والأصل الموجب له، * (إذ أنتم جاهلون) * وهذا نوع اعتذار لهم بجهلهم، أو توبيخ لهم إذ فعلوا فعل الجاهلين، مع أنه لا ينبغي، ولا يليق منهم. فعرفوا أن الذي خاطبهم، هو يوسف فقالوا: * (أإنك لأنت يوسف؟ قال: أنا يوسف، وهذا أخي قد من الله علينا) * بالإيمان والتقوى. والتمكين في الدنيا، وذلك بسبب الصبر والتقوى، * (إنه من يتق ويصبر) * أي: يتقي فعل ما حرم الله، ويصبر على الآلام والمصائب، وعلى الأوامر، بامتثالها * (فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) * فإن هذا من الإحسان، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا. * (قالوا تالله لقد آثرك الله علينا) * أي: فضلك علينا، بمكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم، وأسأنا إليك غاية الإساءة، وحرصنا على إيصال الأذى إليك، والتبعيد لك عن أبيك، فآثرك الله تعالى، ومكنك مما تريده * (وإن كنا لخاطئين) *. * (قال) * لهم يوسف عليه السلام، كرما وجودا:
(٤٠٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 399 400 401 402 403 404 405 406 407 408 409 ... » »»