وهذا أيضا إرشاد آخر، بعدما أرشدهم إلى التدبير فيمن يباشر القتال، أرشدهم إلى أنهم يبدؤون بالأقرب فالأقرب، من الكفار، والغلظة عليهم، والشدة في القتال، والشجاعة والثبات. * (واعلموا أن الله مع المتقين) * أي: وليكن لديكم علم، أن المعونة من الله، تنزل بحسب التقوى، فلازموا على تقوى الله، يعنكم وينصركم على عدوكم. وهذا العموم في قوله: * (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) * مخصوص بما إذا كانت المصلحة في قتال غير الذي يلوننا، وأنواع المصالح كثيرة جدا. * (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته ه ذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون * وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون * أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون) * يقول تعالى: مبينا حال المنافقين، وحال المؤمنين عند نزول القرآن، وتفاوت ما بين الفريقين فقال: * (وإذا ما أنزلت سورة) * فيها الأمر، والنهي، والخبر عن نفسه الكريمة، وعن الأمور الغائبة، والحث عى الجهاد. * (فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا) * أي: حصل الاستفهام لمن حصل له الإيمان بها، من الطائفتين. قال تعالى مبينا الحال الواقعة: * (فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا) * بالعلم بها، وفهمها، واعتقادها، والعمل بها، والرغبة في فعل الخير، والانكفاف عن فعل الشر. * (وهم يستبشرون) * أي: يبشر بعضهم بعضا، بما من الله عليهم من آياته، والتوفيق لفهمها والعمل بها. وهذا دال على انشراح صدورهم لآيات الله، وطمأنينة قلوبهم، وسرعة انقيادهم، لما تحثهم عليه. * (وأما الذين في قلوبهم مرض) * أي: شك ونفاق * (فزادتهم رجسا إلى رجسهم) * أي: مرضا إلى مرضهم، وشكا إلى شكهم، من حيث أنهم كفروا بها، وعاندوها، وأعرضوا عنها، فازداد لذلك مرضهم، وترامى بهم إلى الهلاك * (و) * الطبع على قلوبهم، حتى * (ماتوا وهم كافرون) *. وهذا عقوبة لهم، لأنهم كفروا بآيات الله، وعصوا رسوله، فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه. قال تعالى موبخا لهم عن إقامتهم على ما هم عليه من الكفر والنفاق: * (أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين) * بما يصيبهم من البلايا والأمراض، وبما يبتلون من الأوامر الإلهية التي يراد بها اختبارهم. * (ثم لا يتوبون) * عما هم عليه من الشر * (ولا هم يذكرون) * ما ينفعهم، فيفعلونه، وما يضرهم فيتركونه. فالله تعالى يبتليهم كما هي سنته في سائر الأمم بالسراء والضراء وبالأوامر والنواهي، ليرجعوا إليه، ثم لا يتوبون، ولا هم يذكرون. وفي هذه الآيات، دليل على أن الإيمان يزيد وينقص، وأنه ينبغي للمؤمن أن يتفقد إيمانه ويتعاهده، فيجدده وينميه، ليكون دائما في صعود. * (وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون) * وقوله: * (وإذا ما أنزلت سورة) * إلى * (لا يفقهون) *، يعني: أن المنافقين الذين يحذرون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم. * (إذا ما أنزلت سورة) * ليؤمنوا بها، ويعملوا بمضمونها، * (نظر بعضهم إلى بعض) * جازمين على ترك العمل بها، ينتظرون الفرصة، في الاختفاء عن أعين المؤمنين، ويقولون: * (هل يراكم من أحد ثم انصرفوا) * متسللين، وانقلبوا معرضين، فجازاهم الله بعقوبة من جنس عملهم، فكما انصرفوا عن العمل * (صرف الله قلوبهم) * أي: صدها عن الحق وخذلها. * (بأنهم قوم لا يفقهون) * فقها ينفعهم، فإنهم لو فقهوا، لكانوا إذا نزلت سورة آمنوا بها، وانقادوا لأمرها. والمقصود من هذا بيان شدة نفورهم عن الجهاد وغيره من شرائع الإيمان، كما قال تعالى عنهم: * (فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت) *. * (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم * فإن تولوا فقل حسبي الله لا إل ه إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم) * يمتن تعالى على عباده المؤمنين بما بعث فيهم النبي الأمي الذي من أنفسهم، يعرفون حاله، ويتمكنون من الأخذ عنه، ولا يأنفون عن الانقياد له، وهو صلى الله عليه وسلم في غاية النصح لهم، والسعي في مصالحهم. * (عزيز عليه ما عنتم) * أي: يشق عليه الأمر، الذي يشق عليكم ويعنتكم.
(٣٥٦)