له يتوب عليهم، ويرضى عنهم. وأما ما داموا فاسقين، فإن الله لا يرضى عليهم، لوجود المانع من رضاه، وهو: خروجهم عن ما رضيه الله لهم، من الإيمان والطاعة، إلى ما يغضبه من الشرك والنفاق والمعاصي. وحاصل ما ذكره الله، أن المنافقين المتخلفين عن الجهاد، من غير عذر، إذا اعتذروا للمؤمنين، وزعموا أن لهم أعذارا في تخلفهم، فإن المنافقين يريدون بذلك، أن تعرضوا عنهم، وترضوا وتقبلوا عذرهم، فأما قبول العذر منهم، والرضا عنهم، فلا حبا، ولا كرامة لهم. وأما الإعراض عنهم، فيعرض المؤمنون عنهم، إعراضهم عن الأمور الردية والرجس. وفي هذه الآيات، إثبات الكلام لله تعالى في قوله: * (قد نبأنا الله من أخباركم) *. وإثبات الأفعال الاختيارية لله، الواقعة بمشيئته تعالى وقدرته، في هذا، وفي قوله: * (وسيرى الله عملكم ورسوله) * أخبر أنه سيراه بعد وقوعه. وفيها إثبات الرضا لله عن المحسنين، والغضب والسخط، على الفاسقين. * (الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم) * يقول تعالى: * (الأعراب) * وهم سكان البادية والبراري * (أشد كفرا ونفاقا) * من الحاضرة، الذين فيهم كفر ونفاق، وذلك لأسباب كثيرة. منها: أنهم بعيدون عن معرفة الشرائع الدينية، والأعمال والأحكام. فهم أحرى: * (وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله) * من أصول الإيمان، وأحكام الأوامر والنواهي. بخلاف الحاضرة، فإنهم أقرب، لأن يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله، فيحدث لهم بسبب هذا العلم تصورات حسنة، وإرادات للخير، الذي يعلمون منه ما لا يكون في البادية. وفيهم من لطافة الطبع، والانقياد للداعي، ما ليس في البادية. ويجالسون أهل الإيمان، ويخالطونهم أكثر من أهل البادية. فلذلك كانوا أحرى للخير من أهل البادية، وإن كان في البادية والحاضرة، كفار ومنافقون، ففي البادية أشد وأغلظ، مما في الحاضرة. ومن ذلك، أن الأعراب أحرص على الأموال، وأشح فيها. فمنهم: * (من يتخذ ما ينفق) * منا لزكاة والنفقة في سبيل الله وغير ذلك. * (مغرما) * أي: يراها خسارة ونقصا، لا يحتسب فيها، ولا يريد بها وجه الله ولا يكاد يؤديها إلا كرها. * (ويتربص بكم الدوائر) * أي: من عداوتهم للمؤمنين وبغضهم لهم، أنهم يودون وينتظرون فيهم، دوائر الدهر، وفجائع الزمان، وهذا سينعكس عليهم فتكون * (عليهم دائرة السوء) *. وأما المؤمنون، فلهم الدائرة الحسنة على أعدائهم، ولهم العقبى الحسنة، * (والله عليم حكيم) * يعلم نيات العباد، وما صدرت عنه الأعمال، من إخلاص وغيره. وليس الأعراب كلهم مذمومين، بل منهم * (من يؤمن بالله واليوم الآخر) * فيسلسم بذلك من الكفر والنفاق ويعمل بمقتضى الإيمان. * (ويتخذ ما ينفق قربات عند الله) * أي: يحتسب نفقته، ويقصد بها وجه الله تعالى، والقرب منه * (و) * يجعلها وسيلة إلى * (صلوات الرسول) * أي: دعائه لهم، وتبريكه عليهم، قال تعالى مبينا لنفع صلوات الرسول: * (ألا إنها قربة لهم) * تقربهم إلى الله، وتنمي أموالهم، وتحل فيها البركة. * (سيدخلهم الله في رحمته) * في جملة عباده الصالحين * (أنه غفور رحيم) *، فيغفر السيئات العظيمة لمن تاب إليه، ويعم عباده برحمته، التي وسعت كل شيء، ويخص عباده المؤمنين، برحمة يوفقهم فيها إلى الخيرات، ويحميهم فيها من المخالفات، ويجزل لهم فيها أنواع المثوبات. وفي هذه الآية، دليل على أن الأعراب، كأهل الحاضرة، منهم الممدوح ومنهم المذموم، فلم يذمهم الله على مجرد تعربهم وباديتهم، إنما ذمهم على ترك أوامر الله، وأنهم في مظنة ذلك. ومنها: أن الكفر والنفاق يزيد وينقص، ويغلظ ويخف، بحسب الأحوال. ومنها: فضيلة العلم، وأن فاقده أقرب إلى الشر ممن يعرفه، لأن الله ذم الأعراب، وأخبر أنهم أشد كفرا ونفاقا، وذكر السبب الموجب لذلك، وأنهم أجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله. ومنها: أن العلم النافع، الذي هو أنفع العلوم، معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله، من أصول الدين وفروعه، كمعرفة حدود الإيمان، والإسلام، والإحسان، والتقوى، والفلاح، والطاعة، والبر، والصلة، والإحسان، والكفر، والنفاق، والفسوق، والعصيان، والزنا، والخمر، والربا، ونحو ذلك. فإن في معرفتها يتمكن العارف من فعلها إن كانت مأمورا بها، أو تركها إن كانت محظورة من الأمر بها أو النهي عنها. ومنها: أنه ينبغي للمؤمن أن يؤدي ما عليه من الحقوق، منشرح الصدر، مطمئن النفس، ويحرص أن تكون مغنما، ولا تكون مغرما. * (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم
(٣٤٩)