عزيرا بعد ذلك، حافظا لها أو أكثرها، فأملاها عليهم من حفظه، واستنسخوها، فادعوا فيه هذه الدعوى الشنيعة. * (وقالت النصارى المسيح) * عيسى ابن مريم * (ابن الله) *، قال الله تعالى: * (ذلك) * القول الذي قالوه * (قولهم بأفواههم) * لم يقيموا عليه حجة ولا برهانا. ومن كان لا يبالي بما يقول، لا يستغرب عليه أي قول يقوله، فإنه لا دين ولا عقل، يحجزه، عما يريد من الكلام. ولهذا قال: * (يضاهئون) * أي: يشابهون في قولهم هذا * (قول الذين كفروا من قبل) * أي: قول المشركين الذين يقولون: (الملائكة بنات الله) تشابهت أقوالهم في البطلان. * (قاتلهم الله أنى يؤفكون) * أي: كيف يصرفون عن الحق، الصرف الواضح المبين، إلى القول الباطل المبين. وهذا وإن كان يستغرب على أمة كبيرة كثيرة، أن تتفق على قول يدل على بطلانه، أدنى تفكر وتسليط للعقل عليه فإن لذلك سببا وهو أنهم: * (اتخذوا أحبارهم) * وهم علماؤهم * (ورهبانهم) * أي: العباد المتجردين للعبادة. * (أربابا من دون الله) * يحلون لهم ما حرم الله، فيحلونه، ويحرمون عليهم ما أحل الله فيحرمونه، ويشرعون لهم من الشرائع والأقوال المنافية لدين الرسل فيتبعونهم عليها. وكانوا أيضا يغلون في مشايخهم وعبادهم، ويعظمونهم، ويتخذون قبورهم أوثانا، تعبد من دون الله، وتقصد بالذبائح، والدعاء والاستغاثة. * (والمسيح ابن مريم) * اتخذوه إلها من دون الله، والحال أنهم خالفوا في ذلك، أمر الله لهم على ألسنة رسله، قال تعالى: * (وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو) * فيخلصون له العبادة والطاعة، ويخصونه بالمحبة والدعاء، فنبذوا أمر الله، وأشركوا به، ما لم ينزل به سلطانا. * (سبحانه) * وتعالى * (عما يشركون) * أي: تنزه وتقدس، وتعالت عظمته عن شركهم وافترائهم، فإنهم ينتقصونه في ذلك، ويصفونه بما لا يليق بجلاله، والله تعالى العالي في أوصافه وأفعاله، عن كل ما نسب إليه، مما ينافي كماله المقدس. فلما تبين أنه لا حجة لهم على ما قالوه، ولا برهان لما أصلوه، وإنما هو مجرد قول قالوه، وافتراء افتروه أخبر أنهم * (يريدون) * بهذا * (أن يطفئوا نور الله بأفواههم) *. ونور الله: دينه، الذي أرسل به الرسل، وأنزل به الكتب. وسماه الله نورا، لأنه يستنار به في ظلمات الجهل، والأديان الباطلة. فإنه علم بالحق، وعمل بالحق، وما عداه، فإنه بضده. فهؤلاء اليهود والنصارى، ومن ضاهاهم من المشركين، يريدون أن يطفئوا نور الله، بمجرد أقوالهم، التي ليس عليها دليل أصلا. * (ويأبى الله إلا أن يتم نوره) * لأنه النور الباهر، الذي لا يمكن لجميع الخلق، لو اجتمعوا على إطفائه، أن يطفئوه، والذي أنزله، جميع نواصي العباد بيده. وقد تكفل بحفظه من كل من يريده بسوء، ولهذا قال: * (ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون) * وسعوا ما أمكنهم في رده وإبطاله، فإن سعيهم لا يضر الحق شيئا. ثم بين تعالى هذا النور الذي قد تكفل بإتمامه وحفظه فقال: * (هو الذي أرسل رسوله بالهدى) * الذي هو العلم النافع * (ودين الحق) * الذي هو العمل الصالح فكان ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم مشتملا على بيان الحق من الباطل، في أسماء الله، وأوصافه، وأفعاله، وفي أحكامه وأخباره، والأمر بكل مصلحة نافعة للقلوب، والأرواح، والأبدان، من إخلاص الدين لله وحده، ومحبة الله وعبادته، والأمر بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، والأعمال الصالحة، والآداب النافعة، والنهي عن كل ما يضاد ذلك ويناقضه من الأخلاق والأعمال السيئة، المضرة للقلوب والأبدان والدنيا والآخرة. فأرسله الله بالهدى ودين الحق * (ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) * أي: ليعليه على سائر الأديان، بالحجة والبرهان، والسيف والسنان، وإن كره المشركون ذلك، وبغوا له الغوائل، ومكروا مكرهم، فإن المكر السئ لا يضر إلا صاحبه، فوعد الله لا بد أن ينجزه، وما ضمنه لا بد أن يقوم به. * (يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم * يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم ه ذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون) * هذا تحذير من الله تعالى لعباده المؤمنين، عن كثير من الأحبار والرهبان، أي: العلماء والعباد الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، أي: بغير حق، ويصدون عن سبيل الله، فإنهم إذا كانت لهم رواتب من أموال الناس، أو بذل الناس لهم من أموالهم، فإنه لأجل علمهم وعبادتهم، ولأجل هدادهم وهدايتهم. وهؤلاء يأخذونها،
(٣٣٥)