تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٣٣٤
واسع، يعلم من يليق به الغنى، ومن لا يليق، ويضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها. وتدل الآية الكريمة، وهي قوله: * (فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) * أن المشركين بعدما كانوا هم الملوك والرؤساء بالبيت، ثم صار بعد الفتح، الحكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، مع إقامتهم في البيت، ومكة المكرمة، ثم نزلت هذه الآية. ولما مات النبي صلى الله عليه وسلم، أمر أن يجلوا من الحجاز، فلا يبقى فيها دينان. وكل هذا لأجل بعد كل كافر عن المسجد الحرام، فيدخل في قوله: * (فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) *. * (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) * هذه الآية أمر بقتال الكفار من اليهود والنصارى من * (الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) * إيمانا صحيحا يصدقونه بأفعالهم وأعمالهم. * (ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله) * فلا يتبعون شرعه، في تحريم المحرمات، * (ولا يدينون دين الحق) * أي: لا يدينون بالدين الصحيح، وإن زعموا أنهم على دين، فإنه دين، غير الحق، لأنه إما دين مبدل، وهو الذي لم يشرعه أصلا، وإما دين منسوخ قد شرعه الله، ثم غيره بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، فيبقى التمسك به بعد النسخ غير جائز. فأمره بقتال هؤلاء، وحث على ذلك، لأنهم يدعون إلى ما هم عليه، ويحصل الضرر الكثير منهم للناس، بسبب أنهم أهل كتاب. وعين ذلك القتال * (حتى يعطوا الجزية) * أي: المال الذي يكون جزاء لترك المسلمين قتالهم، وإقامتهم آمنين على أنفسهم وأموالهم، بين أظهر المسلمين، يؤخذ منهم كل عام، كل على حسب حاله، من غني، وفقير، ومتوسط، كما فعل ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وغيره، من أمراء المؤمنين. وقوله: * (عن يد) * أي: حتى يبذلوها في حال ذلهم، وعدم اقتدارهم، ويعطوها بأيديهم، فلا يرسلون بها خادما، ولا غيره، بل لا تقبل إلا من أيديهم، * (وهم صاغرون) *. فإذا كانوا بهذه الحال، وسألوا المسلمين أن يقروهم بالجزية، وهم تحت أحكام المسلمين وقهرهم، وحال الأمن من شرهم وفتنتهم، واستسلموا للشروط التي أجراها المسلمون، بما ينفي عزهم وتكبرهم، ويوجب ذلهم وصغارهم، وجب على الإمام أو نائبه أن يعقدها لهم. وإلا، بأن لم يفوا، ولم يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، لم يجز إقراراهم بالجزية، بل يقاتلون حتى يسلموا. واستدل بهذه الآية، الجمهور الذين يقولون: لا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب، لأن الله لم يذكر أخذ الجزية إلا منهم. وأما غيرهم، فلم يذكر إلا قتالهم حتى يسلموا. وألحق بأهل الكتاب في أخذ الجزية، وإقرارهم في ديار المسلمين، المجوس. فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر، ثم أخذها أمير المؤمنين عمر، من الفرس المجوس. وقيل: إن الجزية تؤخذ من سائر الكفار، من أهل الكتاب وغيرهم، لأن هذه الآية نزلت بعد الفراغ من قتال العرب المشركين، والشروع في قتال أهل الكتاب ونحوهم، فيكون هذا القيد إخبارا بالواقع، لا مفهوما له. ويدل على هذا، أن المجوس أخذت منهم الجزية، وليسوا أهل كتاب، ولأنه قد تواتر عن المسلمين من الصحابة ومن بعدهم أنهم يدعون من يقاتلونهم إلى إحدى ثلاث: إما الإسلام، أو أداء الجزية، أو السيف، من غير فرق بين كتابي وغيره. * (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون * اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم ومآ أمروا إلا ليعبدوا إل ها واحدا لا إل ه إلا هو سبحانه عما يشركون * يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون * هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) * لما أمر تعالى بقتال أهل الكتاب، ذكر من أقوالهم الخبيثة، ما يهيج المؤمنين الذين يغارون لربهم ولدينهم، على قتالهم، والاجتهاد وبذل الوسع فيه فقال: * (وقالت اليهود عزير ابن الله) * وهذه المقالة، وإن لم تكن مقالة لعامتهم فقد قالها فرقة منهم، فيدل ذلك على أن في اليهود من الخبث والشر، ما أوصلهم إلى أن قالوا هذه المقالة، التي تجرأوا فيها على الله، وتنقصوا عظمته وجلاله. وقد قيل: إن سبب ادعائهم في (عزير) أنه ابن الله، أنه لما تسلط الملوك على بني إسرائيل، ومزقوهم كل ممزق، وقتلوا حملة التوراة، وجدوا
(٣٣٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 329 330 331 332 333 334 335 336 337 338 339 ... » »»