تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٣٣٢
الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله، لا يستوون عند الله) *. فالجهاد والإيمان بالله، أفضل من سقاية الحاج، وعمارة المسجد الحرام، بدرجات كثيرة، لأن الإيمان أصل الدين، وبه تقبل الأعمال، وتزكو الخصال. وأما الجهاد في سبيل الله فهو ذروة سنام الدين، به يحفظ الدين الإسلامي، ويتسع، وينصر الحق، ويخذل الباطل. وأما عمارة المسجد الحرام، وسقاية الحاج، فهي، وإن كانت أعمالا صالحة، فهي متوقفة على الإيمان، وليس فيها من المصالح، وما في الإيمان والجهاد، فلذلك قال: * (لا يستوون عند الله، والله لا يهدي القوم الظالمين) * أي: الذين وصفهم الظلم، الذين لا يصلحون لقبول شيء من الخير، بل لا يليق بهم إلا الشر. ثم صرح بالفضل فقال: * (الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم) * بالنفقة في الجهاد، وتجهيز الغزاة * (وأنفسهم) * بالخروج بالنفس * (أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون) * أي: لا يفوز بالمطلوب، ولا ينجو من المرهوب، إلا من اتصف بصفاتهم، وتخلق بأخلاقهم. * (يبشرهم ربهم) * رحمة منه، وكرما، وبرا بهم، واعتناء ومحبة لهم، * (برحمة منه) * أزال بها عنهم الشرور، وأوصل إليهم بها كل خير. * (ورضوان) * منه تعالى عليهم، الذي هو أكبر نعيم الجنة وأجله، فيحل عليهم رضوانه، فلا يسخط عليهم أبدا. * (وجنات لهم فيها نعيم مقيم) * من كل ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، مما لا يعلم وصفه ومقداره، إلا الله تعالى، الذي منه أن الله أعد للمجاهدين في سبيله، مئة درجة، ما بين كل درجتين، كما بين السماء والأرض، ولو اجتمع الخلق في درجة واحدة منها لوسعتهم. * (خالدين فيها أبدا) * لا ينتقلون عنها، ولا يبغون عنها حولا، * (إن الله عنده أجر عظيم) * لا تستغرب كثرته على فضل الله، ولا يتعجب من عظمه وحسنه، على من يقول للشيء كن فيكون. * (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأول ئك هم الظالمون * قل إن كان آباؤكم وأبنآؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونهآ أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين) * يقول تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا) * اعملوا بمقتضى الإيمان، بأن توالوا من قام به، وتعادوا من لم يقم به. و * (لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم) * الذين هم أقرب الناس إليكم، وغيرهم من باب أولى وأحرى، فلا تتخذوهم * (أولياء إن استحبوا) * أي: اختاروا على وجه الرضا والمحبة * (الكفر على الإيمان) *. * (ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون) * لأنهم تجرأوا على معاصي الله، واتخذوا أعداء الله أولياء، وأصل الولاية: المحبة والنصرة. وذلك أن اتخاذهم أولياء، موجب لتقديم طاعتهم على طاعة الله، ومحبتهم على محبة الله ورسوله. ولهذا ذكر السبب الموجب لذلك، هو أن محبة الله ورسوله، يتعين تقديمها على محبة كل شيء، وجعل جميع الأشياء تابعة لهما فقال: * (قل إن كان آباؤكم) * ومثلهم الأمهات * (وأبناؤكم وإخوانكم) * في النسب والعشيرة * (وأزواجكم وعشيرتكم) * أي: قراباتكم عموما * (وأموال اقترفتموها) * أي: اكتسبتموها، وتعبتم في تحصيلها. خصها بالذكر، لأنها أرغب عند أهلها، وصاحبها أشد حرصا عليها، ممن تأتيه الأموال من غير تعب ولا كد. * (وتجارة تخشون كسادها) * أي: رخصها ونقصها، وهذا شامل لجميع أنواع التجارات والمكاسب من عروض التجارات، من الأثمان، والأواني، والأسلحة، والأمتعة، والحبوب، والحروث، والأنعام، وغير ذلك. * (ومساكن ترضونها) * من حسنها وزخرفتها، وموافقتها لأهوائكم، فإن كانت هذه الأشياء * (أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله) * فأنتم فسقة ظلمة. * (فتربصوا) * أي: انتظروا ما يحل بكم من العقاب * (حتى يأتي الله بأمره) * الذي لا مرد له. * (والله لا يهدي القوم الفاسقين) * أي: الخارجين عن طاعة الله، المقدمين على محبة الله، شيئا من المذكورات. وهذه الآية الكريمة، أعظم دليل على وجوب محبة الله ورسوله، وعلى تقديمها على محبة كل شيء، وعلى الوعيد الشديد والمقت الأكيد، على من كان شيء من المذكورات أحب إليه من الله ورسوله، وجهاد في سبيله. وعلامة ذلك أنه إذا عرض عليه أمران، أحدهما يحبه الله ورسوله، وليس لنفسه فيها هوى، والآخر تحبه نفسه وتشتهيه، ولكنه يفوت عليه محبوبا لله ورسوله، أو ينقصه، فإنه إن قدم ما تهواه نفسه، على ما يحبه الله، دل على أنه ظالم، تارك لما يجب عليه. * (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين * ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين * ثم يتوب الله من بعد ذلك
(٣٣٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 327 328 329 330 331 332 333 334 335 336 337 ... » »»