تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٣٢٤
* (ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها) *. * (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين) * * (ذلك) * العذاب الذي أوقعه الله بالأمم المكذبة، وأزال عنهم ما هم فيه، من النعم والنعيم، بسبب ذنوبهم، وتغييرهم ما بأنفسهم، * (بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم) * من نعم الدين والدنيا، بل يبقيها، ويزيدهم منها، إن ازدادوا له شكرا، * (حتى يغيروا ما بأنفسهم) * من الطاعة إلى المعصية، فيكفروا نعمة الله، ويبدلوا بها كفرا، فيسلبهم إياها، ويغيرها عليهم، كما غيروا ما بأنفسهم. ولله الحكمة في ذلك والعدل والإحسان إلى عباده، حيث لم يعاقبهم إلا بظلمهم، وحيث جذب قلوب أوليائه إليه، بما يذيق العباد من النكال إذا خالفوا أمره. * (وأن الله سميع عليم) * يسمع جميع ما نطق به الناطقون، سواء من أسر القول ومن جهر به. ويعلم ما تنطوي عليه الضمائر، وتخفيه السرائر، فيجري على عباده من الأقدار ما اقتضاه علمه وجرت به مشيئته. * (كدأب آل فرعون) * أي: فرعون وقومه * (والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم) * حين جاءتهم * (فأهلكناهم بذنوبهم) * كل بحسب جرمه. * (وأغرقنا آل فرعون وكل) * من المهلكين المعذبين * (كانوا ظالمين) * لأنفسهم، ساعين في هلاكها، لم يظلمهم الله، ولا أخذهم بغير جرم اقترفوه. فليحذر المخاطبون، أن يشابهوهم في الظلم، فيحل الله بهم من عقابه، ما أحل بأولئك الفاسقين. * (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون) * * (أن) * هؤلاء الذين جمعوا هذه الخصال الثلاث الكفر، وعدم الإيمان، والخيانة بحيث لا يثبتون على عهد عاهدوه، ولا قول قالوه، هم * (شر الدواب عند الله) * فهم شر من الحمير والكلاب وغيرها، لأن الخير معدوم منهم، والشر متوقع فيهم. فإذهاب هؤلاء ومحقهم، هو المتعين، لئلا يسري داؤهم لغيرهم ولهذا قال: * (فإما تثقفنهم في الحرب) * أي: تجدنهم في حال المحاربة، بحيث لا يكون لهم عهد وميثاق. * (فشرد بهم من خلفهم) * أي: نكل بهم غيرهم، وأوقع بهم من العقوبة ما يصيرون به عبرة لمن بعدهم * (لعلهم) * أي: من خلفهم * (يذكرون) * صنيعهم، لئلا يصيبهم ما أصابهم. وهذه من فوائد العقوبات والحدود، المرتبة على المعاصي، أنها سبب لازدجار من لم يعمل المعاصي، بل وزجرا لمن عملها، أن لا يعاودها. ودل تقييد هذه العقوبة في الحرب، أن الكافر ولو كان كثير الخيانة سريع الغدر أنه إذا أعطي عهدا، لا يجوز خيانته وعقوبته. * (وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين) * أي: وإذا كان بينك وبين قوم، عهد وميثاق على ترك القتال فخفت منهم خيانة بأن ظهر من قرائن أحوالهم ما يدل على خيانتهم من غير تصريح منهم بالخيانة. * (فانبذ إليهم) * عهدهم، أي: ارمه عليهم، وأخبرهم أنه لا عهد بينك وبينهم. * (على سواء) * أي: حتى يستوي علمك وعلمهم بذلك، ولا يحل لك أن تغدرهم، أو تسعى في شيء مما منعه، موجب العهد، حتى تخبرهم بذلك. * (إن الله لا يحب الخائنين) * بل يبغضهم أشد البغض، فلا بد من أمر بين، يبرئكم من الخيانة. ودلت الآية على أنه إذا وجدت الخيانة المحققة منهم لم يحتج أن ينبذ إليهم عهدهم، لأنه لم يخف منهم، بل علم ذلك، ولعدم الفائدة ولقوله: * (على سواء) *، وهنا قد كان معلوما عند الجميع غدرهم. ودل مفهومها أيضا، أنه إذا لم يخف منهم خيانة، بأن لم يوجد منهم ما يدل على ذلك، أنه لا يجوز نبذ العهد إليهم، بل يجب الوفاء إلى أن تتم مدته. * (ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون) * أي: لا يحسب الكافرون بربهم، المكذبون بآياته، أنهم سبقوا الله وفاتوه، فإنهم لا يعجزونه، والله لهم بالمرصاد. وله تعالى الحكمة البالغة، في إمهالهم، وعدم معاجلتهم بالعقوبة، التي من جملتها، ابتلاء عباده المؤمنين، وامتحانهم، وتزودهم من طاعته ومراضيه، ما يصلون به المنازل العالية، واتصافهم بأخلاق وصفات لم يكونوا بغيره بالغيها، فلهذا قال لعباده المؤمنين: * (وأعدوا لهم ما استطعتم) * إلى * (وأنتم لا تظلمون) *. * (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون) * أي: * (وأعدوا) * لأعدائكم الكفار، الساعين في هلاككم، وإبطال دينكم، * (ما استطعتم من قوة) * أي: كل ما تقدرون عليه، من القوة العقلية والبدنية، وأنواع الأسلحة
(٣٢٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 319 320 321 322 323 324 325 326 327 328 329 ... » »»