عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين) * أي هذه البراءة التامة المطلقة من جميع المشركين. * (إلا الذين عاهدتم من المشركين) * واستمروا على عهدهم، ولم يجر منهم ما يوجب النقص، فلا نقصوكم شيئا، ولا عاونوا عليكم أحدا، فهؤلاء أتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم، قلت، أو كثرت، لأن الإسلام لا يأمر بالخيانة وإنما يأمر بالوفاء. * (إن الله يحب المتقين) * الذين أدوا ما أمروا به، واتقوا الشرك والخيانة، وغير ذلك من المعاصي. * (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم) * يقول تعالى: * (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) * أي: التي حرم فيها قتال المشركين المعاهدين، وهي أشهر التسيير الأربعة، وتمام المدة، لمن له مدة أكثر منها، فقد برئت منهم الذمة. * (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) * في أي مكان وزمان، * (وخذوهم) * (أسري) * (واحصروهم) * أي: ضيقوا عليهم، فلا تدعوهم يتوسعون في بلاد الله وأرضه، التي جعلها معبدا لعباده. فهؤلاء ليسوا أهلا لسكناها، ولا يستحقون منها شبرا، لأن الأرض أرض الله، وهم أعداؤه المنابذون له ولرسله، والمحاربون الذين يريدون أن تخلو الأرض من دينه، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، ولو كره الكافرون. * (واقعدوا لهم كل مرصد) * أي: كل ثنية وموضع يمرون عليه ورابطوا في جهادهم، وابذلوا غاية مجهودكم في ذلك، ولا تزالوا على هذا الأمر، حتى يتوبوا من شركهم. ولهذا قال: * (فإن تابوا) * من شركهم * (وأقاموا الصلاة) * أي: أدوها بحقوقها * (وآتوا الزكاة) * لمستحقيها * (فخلوا سبيلهم) * أي: اتركوهم، وليكونوا مثلكم، لهم ما لكم، وعليهم ما عليكم. * (إن الله غفور رحيم) * يغفر الشرك فما دونه، للتائبين، ويرحمهم، بتوفيقهم للتوبة، ثم قبولها منهم. وفي هذه الآية دليل على أن من امتنع من أداء الصلاة أو الزكاة، فإنه يقاتل حتى يؤديها، كما استدل بذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه. * (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) * لما كان ما تقدم من قوله: * (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد) * أمرا عاما في جميع الأحوال، وفي كل الأشخاص منهم، ذكر تعالى أن المصلحة إذا اقتضت تقريب بعضهم، جاز، بل وجب ذلك فقال: * (وإن أحد من المشركين استجارك) * أي: طلب منك أن تجيره، وتمنعه من الضرر، لأجل أن يسمع كلام الله، وينظر حالة الإسلام. * (فأجره حتى يسمع كلام الله) * ثم إن أسلم، فذاك، وإلا فأبلغه مأمنه، أي: المحل الذي يأمن فيه. والسبب في ذلك أن الكفار قوم لا يعلمون، فربما كان استمرارهم على كفرهم لجهل منهم، إذا زال اختاروا عليه الإسلام، فلذلك أمر الله رسوله، وأمته أسوته في الأحكام، أن يجيروا من طلب أن يسمع كلام الله. وفي هذا حجة صريحة لمذهب أهل السنة والجماعة، القائلين بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، لأنه تعالى هو المتكلم به، وأضافه إلى نفسه إضافة الصفة إلى موصوفها، وبطلان مذهب المعتزلة، ومن أخذ بقولهم: أن القرآن مخلوق. وكم من الأدلة الدالة على بطلان هذا القول، ليس هذا، محل ذكرها. * (كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين) * هذا بيان للحكمة الموجبة، لأن يتبرأ الله ورسوله من المشركين، فقال: * (كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله؟) * هل قاموا بواجب الإيمان، أم تركوا رسول الله والمؤمنين من أذيتهم؟ وحاربوا الحق ونصروا الباطل؟ أما سعوا في الأرض فسادا؟ فيحق عليهم أن يتبرأ الله منهم، وأن لا يكون لهم عهد عنده، ولا عند رسوله؟ * (إلا الذين عاهدتم) * (من المشركين) * (عند المسجد الحرام) * فإن لهم في العهد وخصوصا في هذا المكان الفاضل، حرمة أوجب أن يراعوا فيها. * (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم، إن الله يحب المتقين) * ولهذا قال: * (كيف وإن يظهروا) * إلى قوله: * (لقوم يعلمون) *. * (كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون * اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون * لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأول ئك هم المعتدون * فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة
(٣٢٩)