عباده أن يكون الإنسان نزيها في أقواله وأفعاله غير فاحش ولا بذيء ولا شاتم ولا مخاصم بل يكون حسن الخلق واسع الحلم مجاملا لكل أحد صبورا على ما يناله من أذى الخلق امتثالا لأمر الله ورجاء لثوابه ثم أمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة لما تقدم أن الصلاة متضمنة للإخلاص للمعبود والزكاة متضمنة للإحسان إلى العبيد * (ثم) * بعد هذا الأمر لكم بهذه الأوامر الحسنة التي إذا نظر إليها البصير العاقل عرف أن من إحسان الله إلى عباده أن أمرهم بها وتفضل بها عليهم وأخذ المواثيق عليهم ثم * (توليتم) * على وجه الإعراض لأن المتولي قد يتولى وله نية رجوع إلى ما تولى عنه وهؤلاء ليس لهم رغبة ولا رجوع في هذه الأوامر فنعوذ بالله من الخذلان وقوله: * (إلا قليلا منكم) * هذا استثناء لئلا يوهم أنهم تولوا كلهم فأخبر أن قليلا منهم عصمهم الله وثبتهم (84 - 86) * (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون) * وهذا الفعل المذكور في هذه الآية فعل للذين كانوا في زمن الوحي بالمدينة وذلك أن الأوس والخزرج - وهم الأنصار - كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم مشركين وكانوا يقتتلون على عادة الجاهلية فنزلت عليهم الفرق الثلاث من فرق اليهود: بنو قريظة وبنو النضير وبنو قينقاع فكل فرقة منهم حالفت فرقة من أهل المدينة فكانوا إذا اقتتلوا أعان اليهودي حليفة على مقاتليه الذين تعينهم الفرقة الأخرى من اليهود فيقتل اليهودي اليهودي ويخرجه من دياره إذا حصل جلاء ونهب ثم إذا وضعت الحرب أوزارها وكان قد حصل أسارى بين الطائفتين فدى بعضهم بعضا والأمور الثلاثة كلها قد فرضت عليهم ففرض عليهم أن لا يسفك بعضهم دم بعض ولا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم وإذا وجدوا أسيرا منهم وجب عليهم فداؤه فعملوا بالأخير وتركوا الأولين فأنكر الله عليهم ذلك فقال: * (أفتؤمنون ببعض الكتاب) * وهو فداء الأسير * (وتكفرون ببعض) * وهو القتل والإخراج وفيها أكبر دليل على أن الإيمان يقتضي فعل الأوامر واجتناب النواهي وأن فعل المأمورات من الإيمان قال تعالى: * (فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا) * وقد وقع ذلك فأخزاهم الله وسلط رسوله عليهم فقتل من قتل وسبى من سبى منهم وأجلى من أجلى * (ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب) * أي: أعظمه * (وما الله بغافل عما تعملون) * ثم أخبر تعالى عن السبب الذي أوجب لهم الكفر ببعض الكتاب والإيمان ببعضه فقال: * (أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة) * توهموا أنهم إن لم يعينوا حلفاءهم حصل لهم عار فاختاروا النار على العار فلهذا قال: * (فلا يخفف عنهم العذاب) * بل هو باق على شدته ولا يحصل لهم راحة بوقت من الأوقات * (ولا هم ينصرون) * أي: يدفع عنهم مكروه (87) * (ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون) * يمتن تعالى على بني إسرائيل أن أرسل إليهم كليمه موسى وآتاه التوراة ثم تابع من بعده بالرسل الذين يحكمون بالتوراة إلى أن ختم أنبياءهم بعيسى ابن مريم عليهم السلام وآتاه من الآيات البينات ما يؤمن على مثله البشر * (وأيدناه بروح القدس) * أي: قواه الله بروح القدس قال أكثر المفسرين: إنه جبريل عليه السلام وقيل: إنه الإيمان الذي يؤيد الله به عباده ثم مع هذه النعم التي لا يقدر قدرها لما أتوكم * (بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم) * عن الإيمان بهم * (ففريقا) * منهم * (كذبتم وفريقا تقتلون) * فقدمتم الهوى على الهدى وآثرتم الدنيا على الآخرة وفيها من التوبيخ والتشديد ما لا يخفى (88) * (وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون) * أي: اعتذروا عن الإيمان لما دعوتهم إليه يا أيها الرسول بأن قلوبهم غلف أي: عليها غلاف وأغطية فلا تفقه ما تقول يعني فيكون لهم - بزعمهم - عذر لعدم العلم وهذا كذب منهم فلهذا قال تعالى: * (بل لعنهم الله بكفرهم) * أي: أنهم مطرودون ملعونون بسبب كفرهم فقليلا المؤمن منهم أو قليلا إيمانهم وكفرهم هو الكثير (89 - 90) * (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين * بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباؤوا
(٥٨)