تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٦١
بالذل للعبيد ومن ترك الحق ابتلي بالباطل كذلك هؤلاء اليهود لما نبذوا كتاب الله اتبعوا ما تتلو الشياطين وتختلق من السحر على ملك سليمان حيث أخرجت الشياطين للناس السحر وزعموا أن سليمان عليه السلام كان يستعمله وبه حصل له الملك العظيم وهم كذبة في ذلك فلم يستعمله سليمان بل نزهه الصادق في قوله: * (وما كفر سليمان) * أي: بتعلم السحر فلم يتعلمه * (ولكن الشياطين كفروا) * بذلك * (يعلمون الناس السحر) * من إضلالهم وحرصهم على إغواء بني آدم وكذلك اتبع اليهود السحر الذي أنزل على الملكين الكائنين بأرض بابل من أرض العراق أنزل عليهما السحر امتحانا وابتلاء من الله لعباده فيعلمانهم السحر * (وما يعلمان من أحد حتى) * ينصحاه * (و يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر) * أي: لا تتعلم السحر فإنه كفر فينهيانه عن السحر ويخبرانه عن مرتبته فتعليم الشياطين للسحر على وجه التدليس والإضلال ونسبته وترويجه إلى من برأه الله منه وهو سليمان عليه السلام وتعليم الملكين امتحانا مع نصحهما لئلا يكون لهم حجة فهؤلاء اليهود يتبعون السحر الذي تعلمه الشياطين والسحر الذي يعلمه الملكان فتركوا علم الأنبياء والمرسلين وأقبلوا على علم الشياطين وكل يصبو إلى ما يناسبه ثم ذكر مفاسد السحر فقال: * (فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه) * ومع أن محبة الزوجين لا تقاس بمحبة غيرهما لأن الله قال في حقهما: * (وجعل بينكم مودة ورحمة) * وفي هذا دليل على أن السحر له حقيقة وأنه يضر بإذن الله أي: بإرادة الله والإذن نوعان: إذن قدري وهو المتعلق بمشيئة الله كما في هذه الآية وإذن شرعي كما في قوله تعالى في الآية السابقة: * (فإنه نزله على قلبك بإذن الله) * وفي هذه الآية وما أشبهها أن الأسباب مهما بلغت في قوة التأثير فإنها تابعة للقضاء والقدر ليست مستقلة في التأثير ولم يخالف في هذا الأصل أحد من فرق الأمة غير القدرية في أفعال العباد زعموا أنها مستقلة غير تابعة للمشيئة فأخرجوها عن قدرة الله فخالفوا كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الصحابة والتابعين ثم ذكر أن علم السحر مضرة محضة ليس فيه منفعة لا دينية ولا دنيوية كما يوجد بعض المنافع الدنيوية في بعض المعاصي كما قال تعالى في الخمر والميسر: * (قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما) * فهذا السحر مضرة محضة فليس له داع أصلا فالمنهيات كلها إما مضرة محضة أو شرها أكبر من خيرها كما أن المأمورات إما مصلحة محضة أو خيرها أكثر من شرها * (ولقد علموا) * أي: اليهود * (لمن اشتراه) * أي: رغب في السحر رغبة المشتري في السلعة * (ما له في الآخرة من خلاق) * أي: نصيب بل هو موجب للعقوبة فلم يكن فعلهم إياه جهلا ولكنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة * (ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون) * علما يثمر العمل ما فعلوه (104 - 105) * (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم) * كان المسلمون يقولون حين خطابهم للرسول عند تعلمهم أمر الدين: * (راعنا) * أي: راع أحوالنا فيقصدون بها معنى صحيحا وكان اليهود يريدون بها معنى فاسدا فانتهزوا الفرصة فصاروا يخاطبون الرسول بذلك ويقصدون المعنى الفاسد فنهى الله المؤمنين عن هذه الكلمة سدا لهذا الباب ففيه النهي عن الجائز إذا كان وسيلة إلى محرم وفيه الأدب واستعمال الألفاظ التي لا تحتمل إلا الحسن وعدم الفحش وترك الألفاظ القبيحة أو التي فيها نوع تشويش أو احتمال لأمر غير لائق فأمرهم بلفظة لا تحتمل إلا الحسن فقال: * (وقولوا انظرنا) * فإنها كافية يحصل بها المقصود من غير محذور * (واسمعوا) * لم يذكر المسموع ليعم ما أمر باستماعه فيدخل فيه سماع القرآن وسماع السنة التي هي الحكمة لفظا ومعنى واستجابة ففيه الأدب والطاعة ثم توعد الكافرين بالعذاب المؤلم الموجع وأخبر عن عداوة اليهود والمشركين للمؤمنين أنهم ما يودون * (أن ينزل عليكم من خير) * أي: لا قليلا ولا كثيرا * (من ربكم) حسدا منهم وبغضا لكم أن يختصكم بفضله فإنه * (ذو الفضل العظيم) * ومن فضله عليكم إنزال الكتاب على رسولكم ليزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون فله الحمد والمنة (106 - 107) * (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم
(٦١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 ... » »»