تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٥٩
بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين) * أي: ولما جاءهم كتاب من عند الله على يد أفضل الخلق وخاتم الأنبياء المشتمل على تصديق ما معهم من التوراة وقد علموا به وتيقنوه حتى إنهم كانوا إذا وقع بينهم وبين المشركين في الجاهلية حروب استنصروا بهذا النبي وتوعدوهم بخروجه وأنهم يقاتلون المشركين معه فلما جاءهم هذا الكتاب والنبي الذي عرفوا كفروا به بغيا وحسدا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فلعنهم الله وغضب عليهم غضبا بعد غضب لكثرة كفرهم وتوالي شكهم وشركهم وللكافرين عذاب مهين أي: مؤلم موجع وهو صلي الجحيم وفوت النعيم المقيم فبئس الحال حالهم وبئس ما استعاضوا واستبدلوا من الإيمان بالله وكتبه ورسله الكفر به وبكتبه وبرسله مع علمهم وتيقنهم فيكون أعظم لعذابهم (91 - 93) * (وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين * ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون * وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين) * أي: وإذا أمر اليهود بالإيمان بما أنزل الله على رسوله وهو القرآن استكبروا وعتوا و * (قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه) * أي: بما سواه من الكتب مع أن الواجب أن يؤمنوا بما أنزل الله مطلقا سواء أنزل عليهم أو على غيرهم وهذا هو الإيمان النافع الأيمان بما أنزل الله على جميع رسله وأما التفريق بين الرسل والكتب وزعم الإيمان ببعضها دون بعض فهذا ليس بإيمان بل هو الكفر بعينه ولهذا قال تعالى: * (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا) * ولهذا رد عليهم تبارك وتعالى هنا ردا شافيا وألزمهم إلزاما لا محيد لهم عنه فرد عليهم بكفرهم بالقرآن بأمرين فقال: * (وهو الحق) * فإذا كان هو الحق في جميع ما اشتمل عليه من الإخبارات والأوامر والنواهي وهو من عند ربهم فالكفر به بعد ذلك كفر بالله وكفر بالحق الذي أنزله ثم قال: * (مصدقا لما معهم) * أي: موافقا له في كل ما دل عليه من الحق ومهيمنا عليه فلم تؤمنون بما أنزل عليكم وتكفرون بنظيره؟ هل هذا إلا تعصب واتباع للهوى لا للهدى؟ وأيضا فإن كون القرآن مصدقا لما معهم يقتضي أنه حجة لهم على صدق ما في أيديهم من الكتب فلا سبيل لهم إلى إثباتها إلا به فإذا كفروا به وجحدوه صاروا بمنزلة من ادعى دعوى بحجة وبينة ليس له غيرها ولا تتم دعواه إلا بسلامة بينته ثم يأتي هو لبينته وحجته فيقدح فيها ويكذب بها أليس هذا من الحماقة والجنون؟ فكان كفرهم بالقرآن كفرا بما في أيديهم ونقضا له ثم نقض عليهم تعالى دعواهم الإيمان بما أنزل إليهم بقوله: * (قل) * (لهم) * (فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين * ولقد جاءكم موسى بالبينات) * أي: بالأدلة الواضحات المبينة للحق * (ثم اتخذتم العجل من بعده) * أي: بعد مجيئه * (وأنتم ظالمون) * في ذلك ليس لكم عذر * (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا) * أي: سماع قبول وطاعة واستجابة * (قالوا: سمعنا وعصينا) * أي: صارت هذه حالتهم * (وأشربوا في قلوبهم العجل) * أي: صبغ حب العجل وحب عبادته في قلوبهم وتشربها بسبب كفرهم * (قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين) * أي: أنتم تدعون الإيمان وتتمدحون بالدين الحق وأنتم قتلتم أنبياء الله واتخذتم العجل إلها من دون الله لما غاب عنكم موسى نبي الله ولم تقبلوا أوامره ونواهيه إلا بعد التهديد ورفع الطور فوقكم فالتزمتم بالقول ونقضتم بالفعل فما هذا الإيمان الذي ادعيتم وما هذا الدين؟ فإن كان هذا إيمانا على زعمكم فبئس الإيمان الداعي صاحبه إلى الطغيان والكفر برسل الله وكثرة العصيان وقد عهد أن الإيمان الصحيح يأمر صاحبه بكل خير وينهاه عن كل شر فوضح بهذا كذبهم وتبين تناقضهم (94 - 96) * (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين * ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين * ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون) * أي: * (قل) * لهم على وجه تصحيح دعواهم: * (إن كانت لكم الدار الآخرة) * يعني الجنة * (خالصة من دون الناس) * كما زعمتم أنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة فإن كنتم صادقين في هذه الدعوى * (فتمنوا الموت) * وهذا نوع مباهلة بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بعد هذا الإلجاء والمضايقة لهم بعد العناد منهم إلا أحد أمرين: إما أن يؤمنوا بالله ورسوله وإما أن يباهلوا على ما هم عليه بأمر يسير
(٥٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 ... » »»