تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٦٣
لكان لا فرق بينهما فالبرهان هو الذي يصدق الدعاوى أو يكذبها ولما لم يكن بأيديهم برهان علم كذبهم بتلك الدعوى ثم ذكر تعالى البرهان الجلي العام لكل أحد فقال: * (بلي) * أي: ليس بأمانيكم ودعاويكم ولكن * (من أسلم وجهه لله) * أي: أخلص لله أعماله متوجها إليه بقلبه * (وهو) * مع إخلاصه * (محسن) * في عبادة ربه بأن عبده بشرعه فأولئك هم أهل الجنة وحدهم فلهم أجرهم عند ربهم وهو الجنة بما اشتملت عليه من النعيم * (ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * فحصل لهم المرغوب ونجوا من المرهوب ويفهم منها أن من ليس كذلك فهو من أهل النار الهالكين فلا نجاة إلا لأهل الإخلاص للمعبود والمتابعة للرسول (113) * (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) * وذلك أنه بلغ بأهل الكتاب الهوى والحسد إلى أن بعضهم ضلل بعضا وكفر بعضهم بعضا كما فعل الأميون من مشركي العرب وغيرهم فكل فرقة تضلل الفرقة الأخرى ويحكم الله في الآخرة بين المختلفين بحكمه العدل الذي أخبر به عباده فإنه لا فوز ولا نجاة إلا لمن صدق جميع الأنبياء والمرسلين وامتثل أوامر ربه واجتنب نواهيه ومن عداهم فهو هالك (114) * (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم) * أي: لا أحد أظلم وأشد جرما ممن منع مساجد الله عن ذكر الله فيها وإقامة الصلاة وغيرها من أنواع الطاعات * (وسعى) * أي: اجتهد وبذل وسعه * (في خرابها) * الحسي والمعنوي فالخراب الحسي: هدمها وتخريبها وتقذيرها والخراب المعنوي: منع الذاكرين لاسم الله فيها وهذا عام لكل من اتصف بهذه الصفة فيدخل في ذلك أصحاب الفيل وقريش حين صدوا رسول الله عنها عام الحديبية والنصارى حين أخربوا بيت المقدس وغيرهم من أنواع الظلمة الساعين في خرابها محادة لله ومشاقة فجازاهم الله بأن منعهم دخولها شرعا وقدرا إلا خائفين ذليلين فلما أخافوا عباد الله أخافهم الله فالمشركون الذين صدوا رسوله لم يلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يسيرا حتى أذن الله له في فتح مكة ومنع المشركين من قربان بيته فقال تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) * وأصحاب الفيل قد ذكر الله ما جرى عليهم والنصارى سلط الله عليهم المؤمنين فأجلوهم عنه وهكذا كل من اتصف بوصفهم فلا بد أن يناله قسطه وهذا من الآيات العظيمة أخبر بها الباري قبل وقوعها فوقعت كما أخبر واستدل العلماء بالآية الكريمة على أنه لا يجوز تمكين الكفار من دخول المساجد لهم خزي في الدنيا أي: فضيحة كما تقدم * (ولهم في الآخرة عذاب عظيم) * وإذا كان لا أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه فلا أعظم إيمانا ممن سعى في عمارة المساجد بالعمارة الحسية والمعنوية كما قال تعالى: * (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر) * بل قد أمر الله تعالى برفع بيوته وتعظيمها وتكريمها فقال تعالى: * (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه) * وللمساجد أحكام كثيرة يرجع حاصلها إلى مضمون هذه الآيات الكريمة (115) * (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم) * أي: * (ولله المشرق والمغرب) * خصهما بالذكر لأنهما محل الآيات العظيمة فهما مطالع الأنوار ومغاربها فإذا كان مالكا لها كان مالكا لكل الجهات * (فأينما تولوا) * وجوهكم من الجهات إذا كان توليكم إياها بأمره إما أن يأمركم باستقبال الكعبة بعد أن كنتم مأمورين باستقبال بيت المقدس أو تؤمرون بالصلاة في السفر على الراحلة ونحوها فإن القبلة حيثما توجه العبد أو تشتبه القبلة فيتحرى الصلاة إليها ثم يتبين له الخطأ أو يكون معذورا بصلب أو مرض ونحو ذلك فهذه الأمور إما أن يكون العبد فيها معذورا أو مأمورا وبكل حال فما استقبل جهة من الجهات خارجة عن ملك ربه * (فثم وجه الله إن الله واسع عليم) * فيه
(٦٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 ... » »»