تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٦٩
للثوب الذي صار له صفة فحصلت لكم السعادة الدنيوية والأخروية لحث الدين على مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ومعالي الأمور فلهذا قال - على سبيل التعجب المتقرر للعقول الزكية -: * (ومن أحسن من الله صبغة) * أي: لا أحسن صبغة من صبغته وإذا أردت أن تعرف نموذجا يبين لك الفرق بين صبغة الله وبين غيرها من الصبغ فقس الشيء بضده فكيف ترى في عبد آمن بربه إيمانا صحيحا أثر معه خضوع القلب وانقياد الجوارح فلم يزل يتحلى بكل وصف حسن وفعل جميل وخلق كامل ونعت جليل ويتخلى من كل وصف قبيح ورذيلة وعيب فوصفه: الصدق في قوله وفعله والصبر والحلم والعفة والشجاعة والإحسان القولي والفعلي ومحبة الله وخشيته وخوفه ورجاؤه فحاله الإخلاص للمعبود والإحسان لعبيده فقسه بعبد كفر بربه وشرد عنه وأقبل على غيره من المخلوقين فاتصف بالصفات القبيحة من الكفر والشرك والكذب والخيانة والمكر والخداع وعدم العفة والإساءة إلى الخلق في أقواله وأفعاله فلا إخلاص للمعبود ولا إحسان إلى عبيده فإنه يظهر لك الفرق العظيم بينهما ويتبين لك أنه لا أحسن صبغة من صبغة الله وفي ضمنه أنه لا أقبح صبغة ممن انصبغ بغير دينه وفي قوله: * (ونحن له عابدون) * بيان لهذه الصبغة وهي القيام بهذين الأصلين: الإخلاص والمتابعة لأن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة ولا تكون كذلك حتى يشرعها الله على لسان رسوله والإخلاص: أن يقصد العبد وجه الله وحده في تلك الأعمال فتقديم المعمول يؤذن بالحصر وقال: * (ونحن له عابدون) * فوصفهم باسم الفاعل الدال على الثبوت والاستقرار ليدل على اتصافهم بذلك وكونه صار صبغة لهم ملازما (139) * (قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون) * المحاجة: هي المجادلة بين اثنين فأكثر تتعلق بالمسائل الخلافية حتى يكون كل من الخصمين يريد نصرة قوله وإبطال قول خصمه فكل واحد منهما يجتهد في إقامة الحجة على ذلك والمطلوب منها أن تكون بالتي هي أحسن بأقرب طريق يرد الضال إلى الحق ويقيم الحجة على المعاند ويوضح الحق ويبين الباطل فإن خرجت عن هذه الأمور كانت مماراة ومخاصمة لا خير فيها وأحدثت من الشر ما أحدثت فكان أهل الكتاب يزعمون أنهم أولى بالله من المسلمين وهذا مجرد دعوى تفتقر إلى برهان ودليل فإذا كان رب الجميع واحدا ليس ربا لكم دوننا وكل منا ومنكم له عمله فاستوينا نحن وإياكم بذلك فهذا لا يوجب أن يكون أحد الفريقين أولى بالله من غيره؛ لأن التفريق مع الاشتراك في الشيء من غير فرق مؤثر دعوى باطلة وتفريق بين متماثلين ومكابرة ظاهرة وإنما يحصل التفضيل بإخلاص الأعمال الصالحة لله وحده وهذه الحالة وصف المؤمنين وحدهم فتعين أنهم أولى بالله من غيرهم؛ لأن الإخلاص هو الطريق إلى الخلاص فهذا هو الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان بالأوصاف الحقيقية التي يسلمها أهل العقول ولا ينازع فيها إلا كل مكابر جهول ففي الآية إرشاد لطيف لطريق المحاجة وأن الأمور مبنية على الجمع بين المتماثلين والفرق بين المختلفين (140) * (أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون) * وهذه دعوى أخرى منهم ومحاجة في رسل الله زعموا أنهم أولى بهؤلاء الرسل المذكورين من المسلمين فرد الله عليهم بقوله: * (أأنتم أعلم أم الله) * فالله يقول: * (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين) * وهم يقولون: بل كان يهوديا أو نصرانيا فإما أن يكونوا هم الصادقين العالمين أو يكون الله تعالى هو الصادق العالم بذلك فأحد الأمرين متعين لا محالة وصورة الجواب مبهم وهو في غاية الوضوح والبيان حتى إنه من وضوحه لم يحتج أن يقول بل الله أعلم وهو أصدق ونحو ذلك لانجلائه لكل أحد كما إذا قيل: الليل أنور أم النهار؟ والنار أحر أم الماء؟ والشرك أحسن أم التوحيد؟ ونحو ذلك وهذا يعرفه كل من له أدنى عقل حتى إنهم بأنفسهم يعرفون ذلك ويعرفون أن إبراهيم وغيره من الأنبياء لم يكونوا هودا ولا نصارى فكتموا هذا العلم وهذه الشهادة فلهذا كان ظلمهم أعظم الظلم ولهذا قال تعالى: * (ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله) * فهي شهادة عندهم مودعة من الله لا من الخلق فيقتضي الاهتمام بإقامتها فكتموها وأظهروا ضدها جمعوا بين كتم الحق وعدم النطق به وإظهار الباطل والدعوة إليه أليس هذا أعظم الظلم؟ بلى والله وسيعاقبهم عليه أشد العقوبة فلهذا قال: * (وما الله بغافل عما تعملون) * بل قد أحصى أعمالهم وعدها وادخر لهم جزاءها فبئس الجزاء جزاؤهم وبئست النار مثوى للظالمين وهذه طريقة القرآن في ذكر العلم والقدرة عقب الآيات المتضمنة للأعمال التي يجازى عليها فيفيد ذلك الوعد والوعيد
(٦٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 ... » »»