تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٥٣
ويقيتهم * (كلوا من طيبات ما رزقناكم) * أي: رزقا لا يحصل نظيره لأهل المدن المترفهين فلم يشكروا هذه النعم واستمروا على قساوة القلوب وكثرة الذنوب * (وما ظلمونا) * يعني بتلك الأفعال المخالفة لأوامرنا لأن الله لا تضره معصية العاصين كما لا تنفعه طاعات الطائعين * (ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) * فيعود ضرره عليهم * (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون) * وهذا أيضا من نعمته عليهم بعد معصيتهم إياه فأمرهم بدخول قرية تكون لهم عزا ووطنا وسكنا ويحصل لهم فيها الرزق الرغد وأن يكون دخولهم على وجه خاضعين لله فيه بالفعل وهو دخول الباب * (سجدا) * أي: خاضعين ذليلين وبالقول وهو أن يقولوا: * (حطة) * أي: أن يحط عنهم خطاياهم بسؤالهم إياه مغفرته * (نغفر لكم خطاياكم) * بسؤالكم المغفرة * (وسنزيد المحسنين) * بأعمالهم أي: جزاء عاجلا وآجلا * (فبدل الذين ظلموا) * منهم ولم يقل فبدلوا لأنهم لم يكونوا كلهم بدلوا * (قولا غير الذي قيل لهم) * فقالوا بدل حطة: حبة في حنطة استهانة بأمر الله واستهزاء وإذا بدلوا القول مع خفته فتبديلهم للفعل من باب أولى وأحرى ولهذا دخلوا يزحفون على أدبارهم ولما كان هذا الطغيان أكبر سبب لوقوع عقوبة الله بهم قال: * (فأنزلنا على الذين ظلموا) * منهم * (رجزا) * أي: عذابا * (من السماء بما كانوا يفسقون) * بسبب فسقهم وبغيهم (60) * (وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين) * استسقى أي: طلب لهم ماء يشربون منه * (فقلنا اضرب بعصاك الحجر) * إما حجر مخصوص معلوم عنده وإما اسم جنس * (فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا) * وقبائل بني إسرائيل اثنتا عشرة قبيلة * (قد علم كل أناس) * منهم * (مشربهم) * أي: محلهم الذي يشربون عليه من هذه الأعين فلا يزاحم بعضهم بعضا بل يشربونه متهنئين لا متكدرين ولهذا قال: * (كلوا واشربوا من رزق الله) * أي: الذي آتاكم من غير سعي ولا تعب * (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) * أي: تخربوا على وجه الإفساد (61) * (وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون وإذ قلتم يا موسى) * أي: واذكروا إذ قلتم لموسى على وجه التملل لنعم الله والاحتقار لها: * (لن نصبر على طعام واحد) * أي: جنس من الطعام وإن كان كما تقدم أنواعا لكنها لا تتغير * (فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها) * أي: نباتها الذي ليس بشجر يقوم على ساقه * (وقثائها) * وهو الخيار * (وفومها) * أي: ثومها وعدسها وبصلها والعدس والبصل معروف قال لهم موسى * (أتستبدلون الذي هو أدنى) * وهو الأطعمة المذكورة * (بالذي هو خير) * وهو المن والسلوى فهذا غير لائق بكم فإن هذه الأطعمة التي طلبتم أي مصر هبطتموه وجدتموها وأما طعامكم الذي من الله به عليكم فهو خير الأطعمة وأشرفها فكيف تطلبون به بدلا؟ ولما كان الذي جرى منهم فيه أكبر دليل على قلة صبرهم واحتقارهم لأوامر الله ونعمه جازاهم من جنس عملهم فقال: * (وضربت عليهم الذلة) * التي تشاهد على ظاهر أبدانهم * (والمسكنة) * بقلوبهم فلم تكن أنفسهم عزيزة ولا لهم هممهم أردأ الهمم * (وباؤوا بغضب من الله) * أي: لم تكن غنيمتهم التي رجعوا بها وفازوا إلا أن رجعوا بسخطه عليهم فبئست الغنيمة غنيمتهم وبئست الحالة حالتهم * (ذلك) * الذي استحقوا به غضبه * (بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله) * الدالات على الحق الموضحة لهم فلما كفروا بها عاقبهم بغضبه عليهم وبما كانوا * (يقتلون النبيين بغير الحق) * وقوله: * (بغير الحق) * زيادة شناعة وإلا فمن المعلوم أن قتل النبي لا يكون بحق لكن لئلا يظن جهلهم وعدم علمهم * (ذلك بما عصوا) * بأن ارتكبوا معاصي الله * (وكانوا يعتدون) * على عباد الله فإن المعاصي يجر بعضها بعضا فالغفلة ينشأ عنها الذنب الصغير ثم ينشأ عنه الذنب الكبير ثم ينشأ عنها أنواع البدع والكفر وغير ذلك فنسأل الله العافية من كل بلاء واعلم أن الخطاب في هذه الآيات لأمة بني إسرائيل الذين كانوا موجودين وقت نزول القرآن وهذه الأفعال
(٥٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 ... » »»