تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٥٤
المذكورة خوطبوا بها وهى فعل أسلافهم ونسبت إليهم لفوائد عديدة منها أنهم كانوا يتمدحون ويزكون أنفسهم ويزعمون فضلهم على محمد ومن آمن به فبين الله من أحوال سلفهم التي قد تقررت عندهم ما يبين به لكل واحد [منهم] أنهم ليسوا من أهل الصبر ومكارم الأخلاق ومعالي الأعمال فإذا كانت هذه حالة سلفهم مع أن المظنة أنهم أولى وأرفع حالة ممن بعدهم فكيف الظن بالمخاطبين؟!!
ومنها: أن نعمة الله على المتقدمين منهم نعمة واصلة إلى المتأخرين والنعمة على الآباء نعمة على الأبناء فخوطبوا بها لأنها نعم تشملهم وتعمهم ومنها: أن الخطاب لهم بأفعال غيرهم مما يدل على أن الأمة المجتمعة على دين تتكافل وتتساعد على مصالحها حتى كان متقدمهم ومتأخرهم في وقت واحد وكان الحادث من بعضهم حادثا من الجميع؛ لأن ما يعمله بعضهم من الخير يعود بمصلحة الجميع وما يعمله من الشر يعود بضرر الجميع ومنها: أن أفعالهم أكثرها لم ينكروها والراضي بالمعصية شريك للعاصي إلى غير ذلك من الحكم التي لا يعلمها إلا الله (62) ثم قال تعالى حاكما بين الفرق الكتابية: * (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * وهذا الحكم على أهل الكتاب خاصة لأن الصابئين الصحيح أنهم من جملة فرق النصارى فأخبر الله أن المؤمنين من هذه الأمة واليهود والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وصدقوا رسلهم فإن لهم الأجر العظيم والأمن ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون وأما من كفر منهم بالله ورسله واليوم الآخر فهو بضد هذه الحال فعليه الخوف والحزن والصحيح أن هذا الحكم بين هذه الطوائف من حيث هم لا بالنسبة إلى الإيمان بمحمد فإن هذا إخبار عنهم قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وأن هذا مضمون أحوالهم وهذه طريقة القرآن إذا وقع في بعض النفوس عند سياق الآيات بعض الأوهام فلا بد أن تجد ما يزيل ذلك الوهم لأنه تنزيل من يعلم الأشياء قبل وجودها ومن رحمته وسعت كل شيء وذلك والله أعلم - أنه لما ذكر بني إسرائيل وذمهم وذكر معاصيهم وقبائحهم ربما وقع في بعض النفوس أنهم كلهم يشملهم الذم فأراد الباري تعالى أن يبين من لم يلحقه الذم منهم بوصفه ولما كان أيضا ذكر بني إسرائيل خاصة يوهم الاختصاص بهم ذكر تعالى حكما عاما يشمل الطوائف كلها ليتضح الحق ويزول التوهم والإشكال فسبحان من أودع في كتابه ما يبهر عقول العالمين ثم عاد تبارك وتعالى يوبخ بني إسرائيل بما فعل سلفهم (63 - 64) * (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين) * أي: واذكروا * (إذ أخذنا ميثاقكم) * وهو العهد الثقيل المؤكد بالتخويف لهم برفع الطور فوقهم وقيل لهم: * (خذوا ما آتيناكم) * من التوراة * (بقوة) * أي: بجد واجتهاد وصبر على أوامر الله * (واذكروا ما فيه) * أي: ما في كتابكم بأن تتلوه وتتعلموه * (لعلكم تتقون) * عذاب الله وسخطه أو لتكونوا من أهل التقوى فبعد هذا التأكيد البليغ * (توليتم) * وأعرضتم وكان ذلك موجبا لأن يحل بكم أعظم العقوبات ولكن * (لولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين) * (65 - 66) * (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين) * أي: ولقد تقرر عندكم حالة * (الذين اعتدوا منكم في السبت) * وهم الذين ذكر الله قصتهم مبسوطة في سورة الأعراف في قوله: * (واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت) * الآيات فأوجب لهم هذا الذنب العظيم أن غضب الله عليهم وجعلهم * (قردة خاسئين) * حقيرين ذليلين وجعل الله هذه العقوبة * (نكالا لما بين يديها) * أي: لمن حضرها من الأمم وبلغه خبرها ممن هو في وقتهم * (وما خلفها) * أي: من بعدهم فتقوم على العباد حجة الله وليرتدعوا عن معاصيه ولكنها لا تكون موعظة نافعة إلا للمتقين وأما من عداهم فلا ينتفعون بالآيات
(٥٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 ... » »»