تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٣١٣
لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون) * وهذا أيضا في بيان عدم استحقاق هذه الأصنام، التي يعبدونها، من دون الله شيئا من العبادة، لأنها ليس لها استطاعة ولا اقتدار، في نصر أنفسها، ولا في نصر عابديها، وليس لها قوة العقل والاستجابة، فلو دعوتها إلى الهدى، لم تهتد، وهي صور لا حياة فيها. فتراهم ينظرون إليك، وهم لا يبصرون حقيقة، لأنهم صوروها على صورة الحيوانات، من الآدميين أو غيرهم، وجعلوا لها أبصارا وأعضاء، فإذا رأيتها قلت: هذه حية، فإذا تأملتها عرفت أنها جمادات، لا حراك بها، ولا حياة، فبأي رأي اتخذها المشركون آلهة مع الله؟ ولأي مصلحة أو نفع عكفوا عندها، وتقربوا لها بأنواع العبادات؟ فإذا عرف هذا، عرف أن المشركين وآلهتهم التي عبدوها، لو اجتمعوا وأرادوا أن يكيدوا من تولاه فاطر السماوات والأرض، متولي أحوال عباده الصالحين، لم يقدروا على كيده، بمثقال ذرة من الشر، لكمال عجزهم وعجزها، وكمال قوة الله واقتداره، وقوة من احتمى بجلاله، وتوكل عليه. وقيل: إن معنى قوله: * (وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون) * أن الضمير يعود إلى المشركين المكذبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتحسبهم ينظرون إليك يا رسول الله، نظر اعتبار، يتبين به الصادق من الكاذب، ولكنهم لا يبصرون حقيقتك، وما يتوسمه المتوسمون فيك من الجمال والكمال والصدق. * (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) * هذه الآية جامعة لحسن الخلق مع الناس، وما ينبغي في معاملتهم. فالذي ينبغي أن يعامل به الناس، أن يأخذ العفو، أي: ما سمحت به أنفسهم، وما سهل عليهم من الأعمال والأخلاق، فلا يكلفهم ما لا تسمح به طبعائهم، بل يشكر من كل أحد، ما قابله به، من قول وفعل جميل، أو ما هو دون ذلك، ويتجاوز عند تقصيرهم ويغض طرفه عن نقصهم، ولا يتكبر على الصغير لصغره، ولا ناقص العقل لنقصه، ولا الفقير لفقره، بل يعامل الجميع باللطف والمقابلة بما تقتضيه الحال، وتنشرح له صدورهم. * (وأمر بالعرف) * أي: بكل قول حسن، وفعل جميل، وخلق كامل للقريب والبعيد. فاجعل ما يأتي إلى الناس منك، إما تعليم علم، أو حثا على خير، من صلة رحم، أو بر والدين، أو إصلاح بين الناس، أو نصيحة نافعة، أو رأي مصيب، أو معاونة على بر وتقوى، أو زجر عن قبيح، أو إرشاد إلى تحصيل مصلحة دينية، أو دنيوية. ولما كان لا بد من أذية الجاهل، أمر الله تعالى أن يقابل الجاهل، بالإعراض عنه، وعدم مقابلته بجهله. فمن آذاك، بقوله أو فعله لا تؤذه، ومن حرمك، لا تحرمه، ومن قطعك، فصله، ومن ظلمك فاعدل فيه. * (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم * إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون * وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون) * وأما ما ينبغي أن يعامل به العبد شياطين الجن، فقال تعالى: * (وإما ينزغنك) * (إلي) * (ثم لا يقصرون) *. أي: أي وقت، وفي أي حال * (ينزغنك من الشيطان نزغ) * أي: تحس منه بوسوسة، وتثبيط عن الخير، أو حث على الشر، وإيعاز به. * (فاستعذ بالله) * أي: التجىء واعتصم بالله، واحتم بحماه * (إنه سميع) * لما تقول. * (عليم) * بنيتك وضعفك، وقوة التجائك له، فسيحميك من فتنته، ويقيك من وسوسته، كما قال تعالى: * (قل أعوذ برب الناس) * إلى السورة. ولما كان العبد لا بد أن يغفل وينال منه الشيطان، الذي لا يزال مرابطا، ينتظر غرته وغفلته، ذكر تعالى علامة المتقين من الغاوين، وأن المتقي إذا أحس بذنب، ومسه طائف من الشيطان، فأذنب بفعل محرم أو ترك واجب تذكر من أي باب أتي، ومن أي مدخل دخل الشيطان عليه، وتذكر ما أوجب الله عليه، وما عليه من لوازم الإيمان، فأبصر واستغفر الله تعالى، واستدرك ما فرط منه بالتوبة النصوح، والحسنات الكثيرة، فرد شيطانه خاسئا حسيرا، وقد أفسد عليه كل ما أدركه منه. وأما إخوان الشياطين، وأولياؤهم، فإنهم إذا وقعوا في الذنوب، لا يزالون يمدونهم في الغي، ذنبا بعد ذنب، ولا يقصرون عن ذلك. فالشياطين لا تقتصر عنهم بالإغواء، لأنها طمعت فيهم، حين رأتهم سلسي القياد لها، وهم لا يقصرون عن فعل الشر. * (وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي ه ذا بصآئر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) * أي لا يزال هؤلاء المكذبون لك في تعنت وعناد،
(٣١٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 308 309 310 311 312 313 314 315 316 317 318 ... » »»