بها، استقامت أحواله، وصلحت أعماله، التي من أكبرها الجهاد في سبيله. فكما أن إيمانهم، هو الإيمان الحقيقي، وجزاءهم هو الحق الذي وعدهم الله به، كذلك أخرج الله رسوله صلى الله عليه وسلم من بيته إلى لقاء المشركين في (بدر) بالحق الذي يحبه الله تعالى، وقد قدره وقضاه. وإن كان المؤمنون لم يخطر ببالهم في ذلك الخروج، أن يكون بينهم وبين عدوهم قتال. فحين تبين لهم أن ذلك واقع، جعل فريق من المؤمنين يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، ويكرهون لقاء عدوهم، كأنما يساقون إلى الموت، وهم ينظرون. والحال أن هذا، لا ينبغي منهم، خصوصا بعدما تبين لهم أن خروجهم بالحق، ومما أمر الله به، ورضيه، فهذه الحال، ليس للجدال فيها محل، لأن الجدال محله وفائدته عند اشتباه الحق، والتباس الأمر، فأما إذا وضح وبان، فليس إلا الانقياد والإذعان. هذا وكثير من المؤمنين، لم يجر منهم من هذه المجادلة شيء، ولا كرهوا لقاء عدوهم، وكذلك الذين عاتبهم الله، انقادوا للجهاد أشد الانقياد، وثبتهم الله، وقيض لهم من الأسباب، ما تطمئن به قلوبهم كما سيأتي ذكر بعضها. وكان أصل خروجهم ليتعرضوا لعير خرجت مع أبي سفيان بن حرب لقريش إلى الشام، قافلة كبيرة. فلما سمعوا برجوعها من الشام، ندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس، فخرج معه ثلاث مئة، وبضعة عشر رجلا، معهم سبعون بعيرا، يعتقبون عليها، ويحملون عليها متاعهم. فسمعت بخبرهم قريش، فخرجوا لمنع عيرهم، في عدد كثير وعدد وافرة من السلاح، والخيل والرجال، يبلغ عددهم قريبا من الألف. فوعد الله المؤمنين، إحدى الطائفتين، إما أن يظفروا بالعير، أو بالنفير، فأحبوا العير لقلة ذات يد المسلمين، ولأنها غير ذات الشوكة، ولكن الله تعالى، أحب لهم، وأراد أمرا أعلى مما أحبوا. أراد أن يظفروا بالنفير، الذي خرج فيه كبراء المشركين وصناديدهم، * (ويريد الله أن يحق الحق بكلماته) * فينصر أهله * (ويقطع دابر الكافرين) *، أي يستأصل أهل الباطل، ويري عباده من نصره للحق أمرا لم يكن يخطر ببالهم. * (ليحق الحق) * بما يظهر من الشواهد والبراهين على صحته وصدقه، * (ويبطل الباطل) * بما يقيم من الأدلة والشواهد على بطلانه * (ولو كره المجرمون) * فلا يبالي الله بهم. * (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين * وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم * إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام * إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان * ذلك بأنهم شآقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب * ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار) * أي: اذكروا نعمة الله عليكم لما قارب التقاؤكم بعدوكم، استغثتم بربكم، وطلبتم منه أن يعينكم وينصركم * (فاستجاب لكم) * وأغاثكم بعدة أمور: منها: أن الله أمدكم * (بألف من الملائكة مردفين) * أي: يردف بعضهم بعضا، * (وما جعله الله) * أي إنزال الملائكة * (إلا بشرى) * أي: لتستبشر بذلك نفوسكم، * (ولتطمئن به قلوبكم) * وإلا فالنصر بيد الله، ليس بكثرة عدد ولا عدد. * (أن الله عزيز) * لا يغالبه مغالب، بل هو القهار، الذي يخذل من بلغوا من الكثرة، ومن العدد والآلات، ما بلغوا. * (حكيم) * حيث قدر الأمور بأسبابها، ووضع الأشياء مواضعها. ومن نصره واستجابته لدعائكم أن أنزل عليكم نعاسا * (يغشيكم) * أي: فيذهب ما في قلوبكم من الخوف والوجل، ويكون * (أمنه) * لكم، وعلامة على النصر والطمأنينة. ومن ذلك أنه أنزل عليكم من السماء مطرا ليطهركم به من الحدث والخبث، وليطهركم من وساوس الشيطان ورجزه. * (وليربط على قلوبكم) * أي: يثبتها فإن ثبات القلب، أصل ثبات البدن، * (ويثبت به الأقدام) * فإن الأرض كانت سهلة دهسة فلما نزل عليها المطر، تلبدت، وثبتت به الأقدام. ومن ذلك أن الله أوحى إلى الملائكة * (إني معكم) * بالعون والنصر والتأييد. * (فثبتوا الذين آمنوا) * أي: ألقوا في قلوبهم، وألهموهم الجراءة على عدوهم، ورغبوهم في الجهاد وفضله. * (سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب) * الذي هو أعظم جند لكم عليهم. فإن الله إذا ثبت المؤمنين، وألقى الرعب في قلوب الكافرين، لم يقدر الكافرون على الثبات لهم، ومنحهم الله أكتافهم. * (فاضربوا فوق الأعناق) * أي: على الرقاب * (واضربوا منهم كل بنان) * أي: مفصل. وهذا خطاب، إما للملائكة الذين أوحى إليهم أن يثبتوا الذين آمنوا، فيكون في ذلك دليل، أنهم باشروا القتال يوم بدر، أو للمؤمنين يشجعهم الله، ويعلمهم كيف يقتلون المشركين، وأنهم لا يرحمونهم. * (ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله) * أي: حاربوهما، وبارزوهما بالعداوة. * (ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب) * ومن عقابه
(٣١٦)