تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٣١٥
سورة الأنفال * (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين * إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون * الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * أول ئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم) * الأنفال، هي: الغنائم، التي ينفلها الله لهذه الأمة، من أموال الكفار. وكانت هذه الآيات في هذه السورة، قد نزلت في قصة (بدر) أول غنيمة كبيرة غنمها المسلمون من المشركين، فحصل بين بعض المسلمين فيها نزاع، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، فأنزل الله * (يسألونك عن الأنفال) * كيف تقسم وعلى من تقسم؟. * (قل) * لهم * (الأنفال لله والرسول) * يضعانها حيث شاءا، فلا اعتراض لكم على حكم الله ورسوله، بل عليكم إذا حكم الله ورسوله، أن ترضوا بحكمهما، وتسلموا الأمر لهما، وذلك داخل في قوله: * (فاتقوا الله) * بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه. * (وأصلحوا ذات بينكم) * أي: أصلحوا ما بينكم من التشاحن، والتقاطع، والتدابر، بالتوادد، والتحاب، والتواصل. فبذلك تجتمع كلمتكم، ويزول ما يحصل بسبب التقاطع من التخاصم، والتشاجر والتنازع. ويدخل في إصلاح ذات البين، تحسين الخلق لهم، والعفو عن المسيئين منهم فإنه بذلك يزول كثير مما يكون في القلوب من البغضاء، والتدابر. والأمر الجامع لذلك كله قوله: * (وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين) *، فإن الإيمان يدعو إلى طاعة الله ورسوله، كما أن من لم يطع الله ورسوله، فليس بمؤمن. ومن نقصت طاعته لله ورسوله، فذلك لنقص إيمانه. ولما كان الإيمان قسمين: إيمانا كاملا يترتب عليه المدح والثناء، والفوز التام، وإيمانا دون ذلك، ذكر الإيمان الكامل فقال: * (إنما المؤمنون) * الألف واللام للاستغراق لشرائع الإيمان. * (الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) * أي: خافت ورهبت، فأوجبت لهم خشية الله تعالى، الانكفاف عن المحارم، فإن خوف الله تعالى، أكبر علاماته أن يحجز صاحبه عن الذنوب. * (وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا) *، ووجه ذلك أنهم يلقون له السمع ويحضرون قلوبهم لتدبره فعند ذلك يزيد إيمانهم، لأن التدبر من أعمال القلوب، ولأنه لا بد أن يبين لهم معنى، كانوا يجهلونه، ويتذكرون ما كانوا نسوه، أو يحدث في قلوبهم رغبة في الخير، واشتياقا إلى كرامة ربهم، أو وجلا من العقوبات، وازدجارا عن المعاصي، وكل هذا مما يزداد به الإيمان. * (وعلى ربهم) * وحده، لا شريك له * (يتوكلون) * أي: يعتمدون في قلوبهم على ربهم، في جلب مصالحهم، ودفع مضارهم الدينية، والدنيوية، ويثقون بأن الله تعالى سيفعل ذلك. والتوكل هو الحامل للأعمال كلها، فلا توجد ولا تكمل إلا به. * (الذين يقيمون الصلاة) * من فرائض، ونوافل، بأعمالها الظاهرة والباطنة، كحضور القلب فيها، الذي هو روح الصلاة ولبها. * (ومما رزقناهم ينفقون) * النفقات الواجبة، كالزكوات، والكفارات، والنفقة على الزوجات والأقارب، وما ملكت أيمانهم، والمستحبة كالصدقة في جميع طرق الخير. * (أولئك) * الذين اتصفوا بتلك الصفات * (هم المؤمنون حقا) * لأنهم جمعوا بين الإسلام والإيمان، بين الأعمال الباطنة، والأعمال الظاهرة، بين العلم والعمل، بين أداء حقوق الله، وحقوق عباده. وقدم تعالى أعمال القلوب، لأنها أصل لأعمال الجوارح، وأفضل منها، وفيها دليل على أن الإيمان، يزيد وينقص، فيزيد بفعل الطاعة، وينقص بضدها. وأنه ينبغي للعبد أن يتعاهد إيمانه وينميه، وأن أولى ما يحصل به ذلك تدبر كتاب الله تعالى، والتأمل لمعانيه. ثم ذكر ثواب المؤمنين حقا فقال: * (لهم درجات عند ربهم) * أي: عالية بحسب علو أعمالهم، * (ومغفرة) * لذنوبهم * (ورزق كريم) * وهو ما أعد الله لهم في دار كرامته، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. ودل هذا، على أن من لم يصل إلى درجتهم في الإيمان وإن دخل الجنة فلن ينال ما نالوا، من كرامة الله التامة. * (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون * يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون * وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين * ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون) * قدم تعالى أمام هذه الغزوة الكبرى المباركة الصفات التي على المؤمنين أن يقوموا بها، لأن من قام
(٣١٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 310 311 312 313 314 315 316 317 318 319 320 ... » »»