تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٣١٤
ولو جاءتهم الآيات الدالة على الهدى والرشاد. فإذا جئتهم بشيء من الآيات الدالة على صدقك، لم ينقادوا. * (وإذا لم تأتهم بآية) * من آيات الاقتراح، التي يعينونها * (قالوا لولا اجتبيتها) * أي: هلا اخترت الآية، فصارت الآية الفلانية، والمعجزة الفلانية كأنك أنت المنزل للآيات، المدبر لجميع المخلوقات، ولم يعلموا أنه ليس لك من الأمر شيء، أو لولا اخترعتها من نفسك. * (قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي) * فأنا عبد متبع، مدبر، والله تعالى هو الذي ينزل الآيات ويرسلها على حسب ما اقتضاه حمده وطلبته حكمته البالغة، فإن أردتم آية، لا تضمحل على تعاقب الأوقات، وحجة لا تبطل في جميع الآنات. فإن * (هذا) * القرآن العظيم، والذكر الحكيم * (بصائر من ربكم) * يستبصر به في جميع المطالب الإلهية، والمقاصد الإنسانية، وهو الدليل والمدلول، فمن تفكر وتدبره، علم أنه تنزيل من حكيم حميد لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبه قامت الحجة، على كل من بلغه، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون. وإلا فمن آمن، فهو * (هدى) * له من الضلال * (ورحمة) * له من الشقاء، فالمؤمن، مهتد بالقرآن، متبع له، سعيد في دنياه وأخراه. وأما من لم يؤمن به، فإنه ضال شقي، في الدنيا والآخرة. * (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) * هذا الأمر عام في كل من سمع كتاب الله يتلى، فإنه مأمور بالاستماع له والإنصات، والفرق بين الاستماع والإنصات، أن الإنصات في الظاهر بترك التحدث أو الاشتغال بما يشغل عن استماعه. وأما الاستماع له، فهو أن يلقي سمعه، ويحضر قلبه ويتدبر ما يستمع. فإن من لازم على هذين الأمرين، حين يتلى كتاب الله، فإنه ينال خيرا كثيرا، وعلما غزيرا، وإيمانا مستمرا متجددا، وهدى متزايدا، وبصيرة في دينه. ولهذا رتب الله حصول الرحمة عليهما، فدل ذلك على أن من تلي عليه الكتاب، فلم يستمع له ولم ينصت، أنه محروم الحظ، من الرحمة، قد فاته خير كثير. ومن أوكد ما يؤمر مستمع القرآن، أنه يستمع له وينصت في الصلاة الجهرية إذا قرأ إمامه، فإنه مأمور بالإنصات، حتى إن أكثر العلماء يقولون: إن اشتغاله بالإنصات، أولى من قراءته الفاتحة وغيرها. * (واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون) * الذكر لله تعالى، يكون بالقلب، ويكون باللسان، ويكون بهما، وهو أكمل أنواع الذكر وأحواله، فأمر الله، عبده ورسوله محمدا أصلا، وغيره تبعا، بذكر ربه في نفسه أي: مخلصا خاليا. * (تضرعا) * بلسانك، مكررا لأنواع الذكر، * (وخيفة) * في قلبك بأن تكون خائفا من الله، وجل القلب منه، خوفا أن يكون عملك غير مقبول. وعلامة الخوف أن يسعى ويجتهد، في تكميل العمل وإصلاحه، والنصح به. * (ودون الجهر من القول) * أي: كن متوسطا، لا تجهر بصلاتك، ولا تخافت بها، وابتغ بين ذلك سبيلا. * (بالغدو) * أول النهار * (والآصال) * آخره، وهذان الوقتان، فيهما مزية وفضيلة على غيرهما. * (ولا تكن من الغافلين) * الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، فإنهم حرموا خير الدنيا والآخرة، وأعرضوا عمن كل السعادة والفوز، في ذكره وعبوديته، وأقبلوا على من كل الشقاوة والخيبة، في الاشتغال به. وهذه من الآداب التي ينبغي للعبد أن يراعيها حق رعايتها، وهي الإكثار من ذكر الله آناء الليل والنهار، خصوصا، طرفي النهار، مخلصا خاشعا متضرعا، متذللا، ساكنا متواطئا عليه قلبه ولسانه بأدب ووقار، وإقبال على الدعاء والذكر، وإحضار له بقلبه، وعدم غفلة، فإن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه. ثم ذكر تعالى أن له عبادا مستديمين لعبادته، ملازمين لخدمته وهم الملائكة، لتعلموا أن الله لا يريد أن يستكثر بعبادتكم من قلة، ولا يتعزز بها من ذلة، وإنما يريد نفع أنفسكم، وأن تربحوا عليه، أضعاف أضعاف، ما عملتم، فقال: * (إن الذين عند ربك) * من الملائكة المقربين، وحملة العرش والكروبيين * (لا يستكبرون عن عبادته) * بل يذعنون لها، وينقادون لأوامر ربهم * (ويسبحونه) * الليل والنهار، لا يفترون. * (وله) * وحده لا شريك له * (يسجدون) *، فليقتد العباد، بهؤلاء الملائكة الكرام، وليداوموا على عبادة الملك العلام. تم تفسير سورة الأعراف ولله الحمد والشكر والثناء. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
(٣١٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 309 310 311 312 313 314 315 316 317 318 319 ... » »»