ذنوبهم، وقال موسى في تمام دعائه * (واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة) * من علم نافع، ورزق واسع، وعمل صالح. * (وفي الآخرة) * حسنة، وهي ما أعد الله لأوليائه الصالحين من الثواب. * (إنا هدنا إليك) * أي: رجعنا مقرين بتقصيرنا، منيبين في جميع أمورنا، * (قال) * الله تعالى: * (عذابي أصيب به من أشاء) * ممن كان شقيا، متعرضا لأسبابه، * (ورحمتي وسعت كل شيء) * من العالم العلوي والسفلي، والبر والفاجر، المؤمن والكافر. فلا مخلوق، إلا قد وصلت إليه رحمة الله، وغمره فضله وإحسانه، ولكن الرحمة الخاصة، المقتضية لسعادة الدنيا والآخرة، ليست لكل أحد، ولهذا قال عنها: * (فسأكتبها للذين يتقون) * المعاصي، صغارها، وكبارها. * (ويؤتون الزكاة) * الواجبة مستحقيها * (والذين هم بآياتنا يؤمنون) *، ومن تمام الإيمان بآيات الله، معرفة معناها، والعمل بمقتضاها، ومن ذلك اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، ظاهرا وباطنا، في أصول الدين، وفروعه. * (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي) * احتراز عن سائر الأنبياء، فإن المقصود بهذا، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلى الله عليه وسلم. والسياق في أحوال بني إسرائيل وأن الإيمان بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، شرط في دخولهم في الإيمان، وأن المؤمنين به، المتبعين، هم أهل الرحمة المطلقة، التي كتبها الله لهم، ووصفه بالأمي، لأنه من العرب، الأمة الأمية، التي لا تقرأ ولا تكتب، وليس عندها قبل القرآن كتاب. * (الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل) * باسمه وصفته، التي من أعظمها وأجلها، ما يدعو إليه وينهى عنه. وأنه * (يأمرهم بالمعروف) * وهو كل ما عرف حسنه وصلاحه، ونفعه. * (وينهاهم عن المنكر) * وهو: كل ما عرف قبحه في العقول، والفطر، فيأمرهم بالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وصلة الأرحام، وبر الوالدين، والإحسان إلى الجار، والمملوك، وبذل النفع لسائر الخلق، والصدق، والعفاف، والبر، والنصيحة، وما أشبه ذلك. وينهى عن الشرك بالله، وقتل النفوس بغير حق، والزنا، وشرب ما يسكر العقل، والظلم لسائر الخلق، والكذب، والفجور، ونحو ذلك. فأعظم دليل يدل على أنه رسول الله، ما دعا إليه، وأمر به، ونهى عنه، وأحله، وحرمه، فإنه * (يحل لهم الطيبات) * من المطاعم، والمشارب، والمناكح. * (ويحرم عليهم الخبائث) * من المطاعم، والمشارب، والمناكح، والأقوال، والأفعال. * (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) * أي: ومن وصفه أن دينه، سهل سمح ميسر، لا إصر فيه، ولا أغلال، ولا مشقات، ولا تكاليف ثقال. * (فالذين آمنوا به وعزروه) * أي: عظموه وبجلوه * (ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه) * وهو القرآن، الذي يستضاء به في ظلمات الشك والجهالات ويقتدى به، إذا تعارضت المقالات، * (أولئك هم المفلحون) * الظافرون، بخير الدنيا والآخرة، والناجون من شرهما، لأنهم أتوا بأكبر أسباب الفلاح. وأما من لم يؤمن بهذا النبي الأمي، ويعزره، وينصره، ولم يتبع النور الذي أنزل معه، فأولئك هم الخاسرون. ولما دعا أهل التوراة من بني إسرائيل، إلى اتباعه، وكان ربما توهم متوهم، أن الحكم مقصور عليهم، أتى بما يدل على العموم فقال: * (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا) * أي: عربيكم، وعجميكم، أهل الكتاب فيكم، وغيرهم. * (الذي له ملك السماوات والأرض) * يتصرف فيها بأحكامه الكونية والتدابير السلطانية، وبأحكامه الشرعية الدينية، التي من جملتها: أن أرسل إليكم رسولا عظيما يدعوكم إلى الله، وإلى دار كرامته، ويحذركم من كل ما يباعدكم منه، ومن دار كرامته. * (لا إله إلا هو) * أي: لا معبود بحق، إلا الله وحده لا شريك له، ولا تعرف عبادته إلا من طريق رسله. * (يحيي ويميت) * أي: من جملة تدابيره: الإحياء والإماتة، التي لا يشاركه فيها أحد، وقد جعل الله الموت، جسرا، ومعبرا، يعبر الإنسان منه إلى دار البقاء، التي من آمن بها، صدق الرسول محمد صلى الله عليه وسلم قطعا. * (فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي) * إيمانا في القلب، متضمنا لأعمال القلوب والجوارح، * (الذي يؤمن بالله وكلماته) *، أي: آمنوا بهذا الرسول المستقيم في عقائده، وأعماله، * (واتبعوه لعلكم تهتدون) * في مصالحكم الدينية والدنيوية، فإنكم إذا لم تتبعوه، ضللتم ضلالا بعيدا. * (ومن قوم موسى أمة) * أي: جماعة * (يهدون بالحق وبه يعدلون) * أي: يهدون الناس في تعليمهم إياهم، وفتواهم لهم، يعدلون به في الحكم بينهم، في قضاياهم، كما قال تعالى: * (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) *، وفي هذا فضيلة لأمة موسى عليه الصلاة والسلام، وأن الله تعالى
(٣٠٥)