أي: علمناه كتاب الله، فصار العالم الكبير، والحبر النحرير. * (فانسلخ منها فأتبعه الشيطان) * أي: انسلخ من الاتصاف الحقيقي، بالعلم بآيات الله، فإن العلم بذلك، يصير صاحبه متصفا بمكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ويرقى إلى أعلى الدرجات، وأرفع المقامات، فترك هذا، كتاب الله وراء ظهره، ونبذ الأخلاق، التي يأمر بها الكتاب، وخلعها كما يخلع اللباس. فلما انسلخ منها، أتبعه الشيطان، أي: تسلط عليه، حين خرج من الحصن الحصين، وصار إلى أسفل سافلين، فأزه إلى المعاصي أزا. * (فكان من الغاوين) *، بعد أن كان من الراشدين المرشدين، وهذا، لأن الله تعالى خذلهد ووكله إلى نفسه، فلهذا قال تعالى: * (ولو شئنا لرفعناه بها) * بأن نوفقه للعمل بها، فيرتفع في الدنيا والآخرة، فيتحصن من أعدائه. * (ولكنه) * فعل ما يقتضي الخذلان، إذ * (أخلد إلى الأرض) * أي: إلى الشهوات السفلية، والمقاصد الدنيوية، * (واتبع هواه) * وترك طاعة مولاه، * (فمثله) * في شدة حرصه على الدنيا، وانقطاع قلبه إليها، * (كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث) *، أي: لا يزال لاهثا في كل حال، وهذا لا يزال حريصا، حرصا قاطعا قلبه، لا يسد فاقته شيء من الدنيا. * (ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا) * بعد أن ساقها الله إليهم، فلم ينقادوا لها، بل كذبوا بها، وردوها، لهوانهم على الله واتباعهم لأهوائهم، بغير هدى من الله. * (فاقصص القصص لعلهم يتفكرون) * في ضرب الأمثال، وفي العبر والآيات، فإذا تفكروا، علموا، وإذا علموا، عملوا. * (ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون) *، أي: ساء وقبح، مثل من كذب بآيات الله، وظلم نفسه، بأنواع المعاصي، فإن مثلهم مثل السوء، وهذا الذي آتاه الله آياته، يحتمل أن المراد شخص معين، قد كان منه ما ذكره الله، فقص الله قصة تبينها للعباد. ويحتمل أن المراد بذلك، أنه اسم جنس، وأنه شامل لكل من آتاه الله آياته، فانسلخ منها. وفي هذه الآيات، الترغيب في العمل بالعلم، وأن ذلك رفعة من الله لصاحبه، وعصمة من الشيطان، والترهيب من عدم العمل به، وأنه نزول إلى أسفل سافلين، وتسليط للشيطان عليه، وفيه أن اتباع الهوى، وإخلاد العبد إلى الشهوات، يكون سببا للخذلان. ثم قال مبينا أنه المنفرد بالهداية والإضلال: * (من يهد الله) * بأن يوفقه للخيرات، ويعصمه من المكروهات، ويعلمه ما لم يكن يعلم، * (فهو المهتدي) * حقا لأنه آثر هدايته تعالى. * (ومن يضلل) * فيخذله ولا يوفقه للخير * (فأولئك هم الخاسرون) * لأنفسهم وأهليهم يوم القيامة، ألا ذلك هو الخسران المبين. * (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بهآ أول ئك كالأنعام بل هم أضل أول ئك هم الغافلون) * يقول تعالى مبينا كثرة الغاوين الضالين، المتبعين إبليس اللعين: * (ولقد ذرأنا) * أي: أنشأنا وبثثنا * (لجهنم كثيرا من الجن والإنس) * صارت البهائم أحسن حالة منهم. * (لهم قلوب لا يفقهون بها) * أي: لا يصل إليها فقه ولا علم، إلا مجرد قيام الحجة. * (ولهم أعين لا يبصرون بها) * ما ينفعهم، بل فقدوا منفعتها وفائدتها. * (ولهم آذان لا يسمعون بها) * سماعا يصل معناه إلى قلوبهم. * (أولئك) * الذين بهذه الأوصاف القبيحة * (كالأنعام) * أي: البهائم، التي فقدت العقول، وهؤلاء آثروا ما يفنى، على ما يبقى، فسلبوا خاصية العقل. * (بل هم أضل) * من البهائم، فإن الأنعام مستعملة فيما خلقت له، ولها أذهان، تدرك بها، مضرتها من منفعتها، فلذلك كانت أحسن حالا منهم. و * (أولئك هم الغافلون) * الذين غفلوا عن أنفع الأشياء، غفلوا عن الإيمان بالله، وطاعته، وذكره. خلقت لهم الأفئدة والأسماع والأبصار، لتكون عونا لهم على القيام بأوامر الله وحقوقه، فاستعانوا بها على ضد هذا المقصود. فهؤلاء حقيقون، بأن يكونوا ممن ذرأ الله لجهنم وخلقهم لها، فخلقهم للنار، وبأعمال أهلها، يعملون. وأما من استعمل هذه الجوارح في عبادة الله، وانصبغ قلبه بالإيمان بالله ومحبته، ولم يغفل عن الله، فهؤلاء أهل الجنة، وبأعمال أهل الجنة يعملون. * (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون) * هذا بيان، لعظيم جلاله وسعة أوصافه، بأن له الأسماء الحسنى، أي: له كل اسم حسن، وضابطه: أنه كل اسم دال على صفة كمال عظيمة، وبذلك كانت حسنى، فإنها لو دلت على غير صفة، بل كانت علما محضا، لم تكن حسنى، وكذلك لو دلت على صفة، ليست بصفة كمال، بل إما صفة نقص أو صفة
(٣٠٩)