تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٣٠٢
فرعون، يسومونهم سوء العذاب أورثهم الله * (مشارق الأرض ومغاربها) * والمراد بالأرض ههنا، أرض مصر، التي كانوا فيها مستضعفين، أذلين أي: ملكهم الله جميعا، ومكنهم فيها * (التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا) * حين قال لهم موسى: * (استعينوا بالله واصبروا، إن الأرض يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين) *. * (ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه) * من الأبنية الهائلة، والمساكن المزخرفة * (وما كانوا يعرشون) * فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا، إن في ذلك لآية لقوم يعلمون. * (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر) * بعدما أنجاهم الله من عدوهم فرعون وقومه، وأهلكهم الله، وبنو إسرائيل ينظرون. * (فأتوا) * أي: مروا * (على قوم يعكفون على أصنام لهم) * أي يقيمون عندها ويتبركون بها، ويعبدونها. * (قالوا) * من جهلهم وسفههم، لنبيهم موسى، بعدما أراهم الله من الآيات ما أراهم: * (يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة) * أي: اشرع لنا، أن نتخذ أصناما آلهة، كما اتخذها هؤلاء. * (قال) * لهم موسى: * (إنكم قوم تجهلون) * وأي جهل أعظم من جهل الإنسان ربه وخالقه وأراد أن يسوي به غيره، ممن لا يملك نفعا ولا ضرا، ولا موتا، ولا حياة، ولا نشورا؟. ولهذا قال لهم موسى: * (إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون) *، لأن دعاءهم إياها باطل، وهي باطلة بنفسها، فالعمل باطل، وغايته باطلة. * (قال أغير الله أبغيكم إلها) * أي: أطلب لكم إلها غير الله المألوه، الكامل في ذاته، وصفاته، وأفعاله. * (وهو فضلكم على العالمين) * فيقتضي أن تقابلوا فضله، وتفضيله بالشكر، وذلك بإفراد الله وحده بالعبادة، والكفر بما يدعى من دونه. ثم ذكرهم بما امتن الله به عليهم فقال: * (وإذ أنجيناكم من آل فرعون) * أي: من فرعون وآله، * (يسومونكم سوء العذاب) * أي: يوجهون إليكم من العذاب أسوأه، وهو أنهم كانوا * (يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم) * أي: النجاة من عذابهم * (بلاء من ربكم عظيم) * أي: نعمة جليلة، ومنحة جزيلة، أو في ذلك العذاب الصادر منهم لكم، بلاء من ربكم عليكم عظيم، فلما ذكرهم موسى ووعظهم، انتهوا عن ذلك. ولما أتم الله نعمته عليهم، بالنجاة من عدوهم، وتمكينهم في الأرض، أراد تبارك وتعالى، أن يتم نعمته عليهم، بإنزال الكتاب الذي فيه الأحكام الشرعية، والعقائد المرضية. فواعد موسى ثلاثين ليلة، وأتمها بعشر، فصارت أربعين ليلة، ليستعد موسى، ويتهيأ لوعد الله، ويكون لنزولها، موقع كبير لديهم، وتشوق إلى إنزالها. ولما ذهب موسى إلى ميقات ربه قال لهارون موصيا له على بني إسرائيل من حرصه عليهم وشفقته: * (اخلفني في قومي) * أي: كن خليفتي فيهم، واعمل فيهم، بما كنت أعمل، * (وأصلح) * أي: اتبع طريق الصلاح * (ولا تتبع سبيل المفسدين) * وهم الذين يعملون بالمعاصي. * (ولما جاء موسى ليمقاتنا) * الذي وقتناه له لإنزال الكتاب * (وكلمه ربه) * بما كلمه، من وحيه، وأمره، ونهيه، تشوق إلى رؤية الله، ونزعت نفسه لذلك، حبا لربه واشتياقا لرؤيته. * (قال ربي أرني أنظر إليك، قال) * الله * (لن تراني) * أي: لن تقدر الآن على رؤيتي، فإن الله تبارك وتعالى، أنشأ الخلق في هذه الدار، على نشأة لا يقدرون بها، ولا يثبتون لرؤية الله، وليس في هذا، دليل على أنهم لا يرونه في الجنة. فإنه قد دلت النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، على أن أهل الجنة يرون ربهم تبارك وتعالى، ويتمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم، وأنه ينشئهم نشأة كاملة، يقدرون معها على رؤية الله تعالى. ولهذا رتب الله الرؤية في هذه الآية، على ثبوت الجبل، فقال مقنعا لموسى في عدم إجابته للرؤية * (ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه) * إذا تجلى الله له * (فسوف تراني) *. * (فلما تجلى ربه للجبل) * الأصم الغليظ * (جعله دكا) * أي: انهال مثل الرمل، انزعاجا من رؤية الله وعدم ثبوته لها، * (وخر موسى) * حين رأى ما رأى * (صعقا) * أي: مغشيا عليه. * (فلما أفاق) * تبين له حينئذ، أنه إذا لم يثبت الجبل لرؤية الله، فموسى أولى أن لا يثبت لذلك، واستغفر ربه، لما صدر منه من السؤال، الذي لم يوافق موضعا ولذلك: * (قال سبحانك) * أي: تنزيها لك، وتعظيما عما لا يليق بجلالك. * (تبت إليك) * من جميع الذنوب، وسوء الأدب معك، * (وأنا أول المؤمنين) * أي: جدد عليه الصلاة والسلام إيمانه، بما كمل الله له، مما كان يجهله قبل ذلك، فلما منعه الله من رؤيته بعدما كان متشوقا إليها أعطاه خيرا كثيرا فقال: * (يا موسى إن اصطفيتك على الناس) * أي: اخترتك واجتبيتك، وفضلك،
(٣٠٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 298 299 299 300 301 302 303 304 305 306 307 ... » »»