تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٣٠٨
بالكتاب) * أي: يتمسكون به علما وعملا، فيعلمون ما فيه من الأحكام والأخبار التي علمها أشرف العلوم. ويعملون بما فيها من الأوامر، التي هي قرة العيون، وسرور القلوب، وأفراح الأرواح، وصلاح الدنيا والآخرة. ومن أعظم ما يجب التمسك به من المأمورات، إقامة الصلاة، ظاهرا وباطنا، ولهذا خصها بالذكر لفضلها، وشرفها، وكونها ميزان الإيمان، وإقامتها، داعية لإقامة غيرها من العبادات. ولما كان عملهم كله إصلاحا، قال تعالى: * (إنا لا نضيع أجر المصلحين) * في أقوالهم وأعمالهم، ونياتهم، مصلحين، لأنفسهم، ولغيرهم. وهذه الآية، وما أشبهها، دلت على أن الله بعث رسله، عليهم الصلاة والسلام، بالصلاح لا بالفساد، وبالمنافع لا بالمضار، وأنهم بعثوا بصلاح الدارين، فكل من كان أصلح، كان أقرب إلى اتباعهم. ثم قال تعالى: * (وإذا نتقنا الجبل فوقهم) * حين امتنعوا من قبول ما في التوراة. فألزمهم الله العمل ونتق فوق رؤسهم الجبل، فصار فوقهم * (كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم) * (وقيل لهم) * (خذوا ما آتيناكم بقوة) * أي: بجد واجتهاد. * (واذكروا ما فيه) * دراسة ومباحثة، واتصافا بالعمل * (لعلكم تتقون) * إذا فعلتم ذلك. * (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنآ أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن ه ذا غافلين * أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون * وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون) * يقول تعالى: * (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) * أي: أخرج من أصلابهم، ذريتهم، وجعلهم يتناسلون، ويتوالدون، قرنا بعد قرن. * (و) * حين أخرجهم من بطون أمهاتهم وأصلاب آبائهم * (أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم) * أي: قررهم، بإثبات ربوبيته، بما أودعه في فطرهم، من الإقرار، بأنه ربهم وخالقهم، ومليكهم. قالوا: * (بلى) * قد أقررنا بذلك، فإن الله تعالى، فطر عباده على الدين الحنيف القيم. فكل أحد، فهو مفطور على ذلك، ولكن الفطرة قد تغير، وتبدل، بما يطرأ على العقول من العقائد الفاسدة، ولهذا * (قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) *. أي: إنما امتحناكم، حتى أقررتم، بما تقرر عندكم، من أن الله تعالى، ربكم، خشية أن تنكروا يوم القيامة، فلا تقروا بشيء من ذلك، وتزعمون أن حجة الله، ما قامت عليكم، ولا عندكم بها علم، بل أنتم غافلون عنها لاهون. فاليوم، قد انقطعت حجتكم، وثبتت الحجة البالغة لله، عليكم، أو تحتجون أيضا بحجة أخرى، فتقولون: * (إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم) * فحذونا حذوهم، وتبعناهم في باطلهم. * (أفتهلكنا بما فعل المبطلون) *، فقد أودع الله في فطركم، ما يدلكم على أن ما مع آبائكم، باطل، وأن الحق ما جاءت به الرسل، وهذا يقاوم ما وجدتم عليه آباءكم، ويعلو عليه. نعم قد يعرض للعبد من أقوال آبائه الضالين، ومذاهبهم الفاسدة، ما يظنه هو الحق، وما ذاك إلا لإعراضه، عن حجج الله وبيناته، وآياته الأفقية، والنفسية، فإعراضه ذلك، وإقباله على ما قاله المبطلون، ربما صيره بحالة يفضل بها الباطل على الحق، هذا هو الصواب في تفسير هذه الآيات. وقد قيل: إن هذا يوم أخذ الله الميثاق على ذرية آدم، حين استخرجهم من ظهره، وأشهدهم على أنفسهم، فشهدوا بذلك، فاحتج عليهم بما أمرهم به في ذلك الوقت، على ظلمهم، في كفرهم، وعنادهم في الدنيا والآخرة، ولكن ليس في الآية ما يدل على هذا، ولا له مناسبة، ولا تقتضيه حكمة الله تعالى، والواقع شاهد بذلك. فإن هذا العهد والميثاق، الذي ذكروا، أنه حين أخرج الله ذرية آدم من ظهره، حين كانوا في عالم الذر، لا يذكره أحد، ولا يخطر ببال آدمي. فكيف يحتج الله عليهم بأمر، ليس عندهم به خبر، ولا له عين ولا أثر؟ ولهذا لما كان هذا أمرا واضحا جليا، قال تعالى: * (وكذلك نفصل الآيات) * أي: نبينها ونوضحها، * (ولعلهم يرجعون) * إلى ما أودع الله في فطرهم، وإلى ما عاهدوا الله عليه، فيرتدعوا عن القبائح. * (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين * ولو شئنا لرفعناه بها ول كنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون * ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون * من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأول ئك هم الخاسرون) * يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: * (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا) *
(٣٠٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 303 304 305 306 307 308 309 310 311 312 313 ... » »»