تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٣٠٧
وعظ من اقتحم محارم الله، ولم يصغ للنصيحة، بل استمر على اعتدائه وطغيانه، فإنه لا بد أن يعاقبهم الله، إما بهلاك، أو عذاب شديد. فقال الواعظون: نعظهم وننهاهم * (معذرة إلى ربكم) *، أي: لنعذر فيهم. * (ولعلهم يتقون) * أي: يتركون ما هم فيه من المعصية، فلا نيأس من هدايتهم، فربما نجح فيهم الوعظ، وأثر فيهم اللوم. وهذا هو المقصود الأعظم، من إنكار المنكر، ليكون معذرة، وإقامة حجة على المأمور المنهي، ولعل الله أن يهديه، فيعمل بمقتضى ذلك الأمر، والنهي. * (فلما نسوا ما ذكروا به) * أي: تركوا ما ذكروا به، واستمروا على غيهم واعتدائهم. * (أنجينا الذين ينهون عن السوء) * وهكذا سنة الله في عباده، أن العقوبة إذا نزلت نجا منها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر. * (وأخذنا الذين ظلموا) * وهم الذين اعتدوا في السبت * (بعذاب بئيس) * أي: شديد * (بما كانوا يفسقون) *، وأما الفرقة الأخرى التي قالت للناهين * (لم تعظون قوما الله مهلكهم) *، فاختلف المفسرون في نجاتهم، وهلاكهم، والظاهر، أنهم كانوا من الناجين، لأن الله خص الهلاك بالظالمين، وهو لم يذكر، أنهم ظالمون. فدل على أن العقوبة، خاصة بالمعتدين في السبت، ولأن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فرض كفاية، إذا قام به البعض، سقط عن الآخرين، فاكتفوا بإنكار أولئك، ولأنهم أنكروا عليهم بقولهم: * (لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا) * فأبدوا من غضبهم عليهم، ما يقتضي أنهم كارهون أشد الكراهة، لفعلهم، وأن الله سيعاقبهم أشد العقوبة. * (فلما عتوا عما نهوا عنه) * أي: قسوا فلم يلينوا، ولا اتعظوا، * (قلنا لهم) * قولا قدريا، * (كونوا قردة خاسئين) * فانقلبوا بإذن الله قردة، وأبعدهم الله من رحمته، ثم ذكر ضرب الذلة والصغار على من بقي منهم فقال: * (وإذ تأذن ربك) * أي: اعلم إعلاما، صريحا: * (ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب) * أي: يهينهم، ويذلهم. * (إن ربك لسريع العقاب) * لمن عصاه، حتى إنه يعجل له العقوبة في الدنيا. * (وإنه لغفور رحيم) * لمن تاب إليه وأناب، يغفر له الذنوب، ويستر عليه العيوب، ويرحمه، بأن يتقبل منه الطاعات، ويثيبه عليها بأنواع المثوبات. وقد فعل الله بهم ما وعدهم به، فلا يزالون في ذل وإهانة، تحت حكم غيرهم، لا تقوم لهم راية، ولا ينصر لهم علم. * (وقطعناهم في الأرض أمما) * أي: فرقناهم ومزقناهم في الأرض، بعدما كانوا مجتمعين، * (منهم الصالحون) * القائمون بحقوق الله، وحقوق عباده، * (ومنهم دون ذلك) * على: دون الصلاح، إما مقتصدون، وإما الظالمون لأنفسهم، * (وبلوناهم) * أي عادتنا وسنتنا، * (بالحسنات والسيئات) * أي: باليسر والعسر. * (لعلهم يرجعون) * عما هم عليه مقيمون، من الردى، ويراجعون ما خلقوا له من الهدى، فلم يزالوا بين صالح، وطالح، ومقتصد. * (فخلف من بعدهم خلف) * زاد شرهم * (ورثوا) * بعدهم * (الكتاب) * وصار المرجع فيه إليهم، وصاروا يتصرفون فيه بأهوائهم، وتبذل لهم الأموال، ليفتوا ويحكموا، بغير الحق، وفشت فيهم الرشوة. * (يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون) * مقرين بأنه ذنب وأنهم ظلمة: * (سيغفر لنا) * وهذا قول خال من الحقيقة، فإنه ليس استغفارا وطلبا للمغفرة على الحقيقة. فلو كان ذلك، لندموا على ما فعلوا، وعزموا على أن لا يعودوا، ولكنهم إذا أتاهم عرض آخر، ورشوة أخرى يأخذونه. فاشتروا بآيات الله ثمنا قليلا، واستبدلوا الذي هو أدنى، بالذي هو خير. قال الله تعالى في الإنكار عليهم، وبيان جراءتهم: * (ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق) *، فما بالهم يقولون عليه غير الحق، اتباعا لأهوائهم، وميلا مع مطامعهم. * (و) * الحال أنهم قد * (درسوا ما فيه) * فليس عليهم فيه إشكال، بل قد أتوا أمرهم متعمدين، وكانوا في أمرهم مستبصرين، وهذا أعظم للذنب، وأشد للوم، وأشنع للعقوبة، وهذا من نقص عقولهم، وسفاهة رأيهم، بإيثار الحياة الدنيا على الآخرة، ولهذا قال: * (والدار الآخرة خير للذين يتقون) * ما حرم الله عليهم، من المآكل التي تصاب، وتؤكل رشوة على الحكم، بغير ما أنزل الله، وغير ذلك من أنواع المحرمات. * (أفلا تعقلون) * أي: أفلا تكون لكم عقول توازن بين ما ينبغي إيثاره، وما ينبغي الإيثار عليه، وما هو أولى بالسعي إليه، والتقديم له على غيره، فخاصية العقل، النظر للعواقب. وأما من نظر إلى عاجل طفيف منقطع، يفوت نعيما عظيما باقيا فأنى له العقل والرأي؟ وإنما العقلاء حقيقة، من وصفهم الله بقوله: * (والذين يمسكون
(٣٠٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 302 303 304 305 306 307 308 309 310 311 312 ... » »»