فسييسره للعسرى. * (وه ذا صراط ربك مستقيما قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون * لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون) * أي: معتدلا، موصلا إلى الله، وإلى دار كرامته، قد بينت أحكامه، وفصلت شرائعه، وميز الخير من الشر. ولكن هذا التفصيل والبيان، ليس لكل أحد، إنما هو * (لقوم يذكرون) *. فإنهم الذين علموا، فانتفعوا بعلمهم، وأعد لهم الجزاء الجزيل، والأجر الجميل. فلهذا قال: * (لهم دار السلام عند ربهم) *. وسميت الجنة دار السلام، لسلامتها من كل عيب، وآفة وكدر، وهم وغم، وغير ذلك من المنغصات. ويلزم من ذلك، أن يكون نعيمها: في غاية الكمال، ونهاية التمام، بحيث لا يقدر على وصفه الواصفون، ولا يتمنى فوقه المتمنون، من نعيم الروح، والقلب، والبدن. ولهم فيها، ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، وهم فيها خالدون. * (وهو وليهم) * الذي يتولى تدبيرهم وتربيتهم، ولطف بهم في جميع أمورهم، وأعانهم على طاعته، ويسر لهم كل سبب موصل إلى محبته. وإنما تولاهم، بسبب أعمالهم الصالحة، ومقدماتهم التي قصدوا بها رضا مولاهم. بخلاف من أعرض عن مولاه، واتبع هواه. فإنه سلط عليه الشيطان فتولاه، فأفسد عليه دينه ودنياه. * (ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أوليآؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنآ أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيهآ إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم * وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون * يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقآء يومكم ه ذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين * ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون * ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون * وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين * إن ما توعدون لآت ومآ أنتم بمعجزين * قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون) * يقول تعالى: * (ويوم يحشرهم جميعا) * أي: جميع الثقلين، من الإنس والجن، من ضل منهم، ومن أضل غيره. فيقول موبخا للجن، الذين أضلوا الإنس، وزينوا لهم الشر، وأزوهم إلى المعاصي: * (يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس) * أي: من إضلالهم، وصدهم عن سبيل الله. فكيف أقدمتم على محارمي، وتجرأتم على معاندة رسلي؟ وقمتم محاربين لله، ساعين في صد عباد الله عن سبيله، إلى سبيل الجحيم؟ فاليوم حقت عليكم لعنتي، ووجبت لكم نقمتي. وسنزيدكم من العذاب بحسب كفركم، وإضلالكم لغيركم. وليس لكم عذر به تعتذرون، ولا ملجأ إليه تلجأون، ولا شافع يشفع ولا دعاء يسمع. فلا تسأل حينئذ، عما يحل بهم من النكال، والخزي والوبال، ولهذا لم يذكر الله لهم اعتذارا. وأما أولياؤهم من الإنس، فأبدوا عذرا غير مقبول فقالوا: * (ربنا استمتع بعضنا ببعض) * أي: تمتع كل من الجني والإنسي بصاحبه، وانتفع به. فالجني يستمتع بطاعة الإنسي له، وعبادته، وتعظيمه، واستعاذته به. والإنسي يستمتع بنيل أغراضه، وبلوغه بحسب خدمة الجني له، بعض شهواته. فإن الإنسي يعبد الجني، فيخدمه الجني، ويحصل له بعض الحوائج الدنيوية. أي: حصل منا من الذنوب ما حصل، ولا يمكن رد ذلك. * (وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا) * أي: وقد وصلنا المحل الذي نجازى فيه بالأعمال. فافعل بنا الآن، ما تشاء، واحكم فينا، بما تريد. قد انقطعت حجتنا، ولم يبق لنا عذر، والأمر أمرك، والحكم حكمك. وكان في هذا الكلام منهم، نوع تضرع وترقق، ولكن في غير أوانه. ولهذا حكم فيهم بحكمه العادل، الذي لا جور فيه فقال * (النار مثواكم خالدين فيها) *. ولما كان هذا الحكم، من مقتضى حكمته وعلمه، ختم الآية بقوله: * (إن ربك حكيم عليم) *. فكما أن علمه وسع الأشياء كلها وعمها، فحكمته الغائية، شملت الأشياء وعمتها ووسعتها. * (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون) * أي: وكما ولينا الجن المردة، وسلطانهم على إضلال أوليائهم من الإنس وعقدنا بينهم عقد الموالاة والموافقة، بسبب كسبهم وسعيهم بذلك. كذلك من سنتنا، أن نولي كل ظالم ظالما مثله، يؤزه إلى الشر، ويحثه عليه، ويزهده في الخير، وينفره عنه، وذلك من عقوبات الله العظيمة الشنيع أثرها، البليغ خطرها. والذنب ذنب الظالم، فهو الذي أدخل الضرر على نفسه، وعلى نفسه جنى * (وما ربك بظلام للعبيد) *. ومن ذلك، أن العباد، إذا كثر ظلمهم وفسادهم، ومنعهم الحقوق الواجبة، ولى عليهم ظلمة، يسومونهم سوء
(٢٧٣)