ببعض ما أنزل إليه فقد كذب بجميعه كما أن من كفر برسول فقد كذب الرسل جميعهم فلما أمرهم بالإيمان به نهاهم وحذرهم من ضده وهو الكفر به فقال: * (ولا تكونوا أول كافر به) * أي: بالرسول والقرآن وفي قوله: * (أول كافر به) * أبلغ من قوله: * (ولا تكفروا به) * لأنهم إذا كانوا أول كافر به كان فيه مبادرتهم إلى الكفر به عكس ما ينبغي منهم وصار عليهم إثمهم وإثم من اقتدى بهم من بعدهم ثم ذكر المانع لهم من الإيمان وهو اختيار العرض الأدنى على السعادة الأبدية فقال: * (ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا) * وهو ما يحصل لهم من المناصب والمآكل التي يتوهمون انقطاعها إن آمنوا بالله ورسوله فاشتروها بآيات الله واستحبوها وآثروها * (وإياي) * أي: لا غيري * (فاتقون) * فإنكم إذا اتقيتم الله وحده أوجبت لكم تقواه تقديم الإيمان بآياته على الثمن القليل كما أنكم إذا اخترتم الثمن القليل فهو دليل على ترحل التقوى من قلوبكم ثم قال: * (ولا تلبسوا) * أي: تخلطوا * (الحق بالباطل وتكتموا الحق) * فنهاهم عن شيئين عن خلط الحق بالباطل وكتمان بيان الحق؛ لأن المقصود من أهل الكتب والعلم تمييز الحق من الباطل وإظهار الحق ليهتدي بذلك المهتدون ويرجع الضالون وتقوم الحجة على المعاندين؛ لأن الله فصل آياته وأوضح بيناته ليميز الحق من الباطل ولتستبين سبيل المهتدين من سبيل المجرمين فمن عمل بهذا من أهل العلم فهو من خلفاء الرسل وهداة الأمم ومن لبس الحق بالباطل فلم يميز هذا من هذا مع علمه بذلك وكتم الحق الذي يعلمه وأمر بإظهاره فهو من دعاة جهنم لأن الناس لا يقتدون في أمر دينهم بغير علمائهم فاختاروا لأنفسكم إحدى الحالتين ثم قال: (* (وأقيموا الصلاة) * أي: ظاهرا وباطنا (* (وآتوا الزكاة) * مستحقيها * (واركعوا مع الراكعين) * أي: صلوا مع المصلين فإنكم إذا فعلتم ذلك مع الإيمان برسل الله وآيات الله فقد جمعتم بين الأعمال الظاهرة والباطنة وبين الإخلاص للمعبود والإحسان إلى عبيده وبين العبادات القلبية والبدنية والمالية وقوله: * (واركعوا مع الراكعين) * أي: صلوا مع المصلين ففيه الأمر بالجماعة للصلاة ووجوبها وفيه أن الركوع ركن من أركان الصلاة لأنه عبر عن الصلاة بالركوع والتعبير عن العبادة بجزئها يدل على فرضيته فيها (44) * (أتأمرون الناس بالبر) * أي: بالإيمان والخير * (وتنسون أنفسكم) * أي: تتركونها عن أمرها بذلك والحال: * (وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون) * وأسمى العقل عقلا لأنه يعقل به ما ينفعه من الخير وينعقل به عما يضره وذلك أن العقل يحث صاحبه أن يكون أول فاعل لما يأمر به وأول تارك لما ينهى عنه فمن أمر غيره بالخير ولم يفعله أو نهاه عن الشر فلم يتركه دل على عدم عقله وجهله خصوصا إذا كان عالما بذلك قد قامت عليه الحجة وهذه الآية وإن كانت نزلت في سبب بني إسرائيل فهي عامة لكل أحد لقوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) * وليس في الآية أن الإنسان إذا لم يقم بما أمر به أنه يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنها دلت على التوبيخ بالنسبة إلى الواجبين وإلا فمن المعلوم أن على الإنسان واجبين: أمر غيره ونهيه وأمر نفسه ونهيها فترك أحدهما لا يكون رخصة في ترك الآخر فإن الكمال أن يقوم الإنسان بالواجبين والنقص الكامل أن يتركهما وأما قيامه بأحدهما دون الآخر فليس في رتبة الأول وهو دون الأخير وأيضا فإن النفوس مجبولة على عدم الانقياد لمن يخالف قوله فعله فاقتداؤهم بالأفعال أبلغ من اقتدائهم بالأقوال المجردة (45 - 48) * (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون) * أمرهم الله أن يستعينوا في أمورهم كلها بالصبر بجميع أنواعه وهو الصبر على طاعة الله حتى يؤديها والصبر عن معصية الله حتى يتركها والصبر على أقدار الله المؤلمة فلا يتسخطها فبالصبر وحبس النفس على ما أمر الله بالصبر عليه معونة عظيمة على كل أمر من الأمور ومن يتصبر يصبره الله وكذلك الصلاة التي هي ميزان الإيمان وتنهي عن الفحشاء والمنكر يستعان بها على كل أمر من الأمور * (وإنها) * أي: الصلاة * (لكبيرة) * أي: شاقة * (إلا على الخاشعين) * فإنها سهلة عليهم خفيفة؛ لأن الخشوع وخشية الله ورجاء ما عنده يوجب له فعلها منشرحا صدره لترقبه للثواب وخشية من العقاب بخلاف من لم يكن كذلك فإنه لا داعي له يدعوه إليها وإذا فعلها صارت من أثقل الأشياء عليه والخشوع هو: خضوع القلب وطمأنينته وسكونه لله تعالى وانكساره بين يديه ذلا وافتقارا وإيمانا به وبلقائه
(٥١)