تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٢٥١
وعدا عليه حقا، ولكن أكثر الناس لا يعلمون * ليبين لهم الذي يختلفون فيه، وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين) * ثم أمرهم أن يعتبروا بالأمم السابقة فقال: * (ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن) * أي: كم تتابع إهلاكنا للأمم المكذبين، وأمهلناهم قبل ذلك الإهلاك، بأن * (مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم) * من الأموال والبنين والرفاهية. * (وأرسلنا السماء عليهم مدرارا، وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم) * تنبت لهم بذلك ما شاء الله، من زروع وثمار، يتمتعون بها، ويتناولون منها ما يشتهون. فلم يشكروا الله على نعمه، بل أقبلوا على الشهوات، وألهتهم اللذات. فجاءتهم رسلهم بالبينات، فلم يصدقوها، بل ردوها وكذبوها * (فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين) * أي: فأهلكهم الله بذنوبهم، وأنشأ من بعدهم قرنا آخرين. فهذه سنة الله ودأبه، في الأمم السابقين واللاحقين. فاعتبروا بمن قص الله عليكم نبأهم. * (ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن ه ذآ إلا سحر مبين * وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون * ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون) * هذا إخبار من الله لرسوله عن شدة عناد الكافرين، وأنه ليس تكذيبهم لقصور فيما جئتهم به، ولا لجهل منهم بذلك، وإنما ذلك ظلم وبغي، لا حيلة لكم فيه. فقال: * (ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم) * وتيقنوه * (لقال الذين كفروا) * ظلما وعدوانا * (إن هذا إلا سحر مبين) *. فأي بينة أعظم من هذه البينة، وهذا قولهم الشنيع فيها، حيث كابروا المحسوس، الذي لا يمكن من له أدنى مسكة من عقل دفعه؟ * (وقالوا) * أيضا تعنتا مبنيا على الجهل، وعدم العلم بالمعقول. * (لولا أنزل عليه ملك) * أي: هلا أنزل مع محمد ملك، يعاونه ويساعده على ما هو عليه بزعمهم أنه بشر، وأن رسالة الله، لا تكون إلا على أيدي الملائكة. قال الله في بيان رحمته ولطفه بعباده، حيث أرسل إليهم بشرا منهم يكون الإيمان بما جاء به، عن علم، وبصيرة، وغيب. * (ولو أنزلنا ملكا) * برسالتنا، لكان الإيمان لا يصدر عن معرفة بالحق ولكان إيمانا بالشهادة، الذي لا ينفع شيئا وحده. وهذا إن آمنوا، والغالب أنهم لا يؤمنون بهذه الحالة. فلو لم يؤمنوا * (لقضي الأمر) * بتعجيل الهلاك عليهم، وعدم إنظارهم، لأن هذه سنة الله، فيمن طلب الآيات المقترحة، فلم يؤمن بها. فإرسال الرسول البشري إليهم، بالآيات البينات، التي يعلم الله أنها أصلح للعباد، وأرفق بهم، مع إمهال الله للكافرين والمكذبين خير لهم وأنفع. فطلبهم لإنزال الملك، شر لهم، لو كانوا يعلمون. ومع ذلك، فالملك لو أنزل عليهم، وأرسل، لم يطيقوا التلقي عنه، ولا احتملوا ذلك، ولا أطاقته قواهم الفانية. * (ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا) * لأن الحكمة لا تقتضي سوى ذلك. * (وللبسنا عليهم ما يلبسون) * أي: ولكان الأمر، مختلطا عليهم، وملبوسا. وذلك بسبب ما لبسوه على أنفسهم، فإنهم بنوا أمرهم على هذه القاعدة التي فيها اللبس، وعدم بيان الحق. فلما جاءهم الحق، بطرقه الصحيحة، وقواعده التي هي قواعده، لم يكن ذلك هداية لهم، إذا اهتدى بذلك غيرهم. والذنب ذنبهم، حيث أغلقوا على أنفسهم باب الهدى، وفتحوا أبواب الضلال. * (ولقد استهزىء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون * قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين) * يقول تعالى مسليا لرسوله، ومصبرا ومتهددا أعداءه، ومتوعدا. * (ولقد استهزىء برسل من قبلك) * لما جاؤوا أممهم بالبينات، كذبوهم واستهزأوا بهم، وبما جاؤوا به. فأهلكهم الله بذلك الكفر والتكذيب، ووفر لهم من العذاب أكمل نصيب. * (فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون) * فاحذروا أيها المكذبون أن تستمروا على تكذيبكم، فيصيبكم ما أصابهم. * (قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين) * أي: فإن شككتم في ذلك، أو ارتبتم، فسيروا في الأرض، ثم انظروا، كيف كان عاقبة المكذبين، فلن تجدوا إلا قوما مهلكين، وأمما في المثلات تالفين. قد أوحشت منهم المنازل، وعدم من تلك الربوع كل متمتع بالسرور نازل. أبادهم الملك الجبار، وكان نبأهم عبرة لأولي الأبصار. وهذا السير المأمور به، سير القلوب والأبدان، الذي يتولد منه الاعتبار. وأما مجرد النظر من غير اعتبار، فإن ذلك لا يفيد شيئا. * (قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون) * يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: * (قل) * لهؤلاء المشركين، مقررا لهم وملزما بالتوحيد: * (لمن ما في السماوات والأرض) * أي: من الخالق لذلك، المالك له، المتصرف فيه؟ * (قل) * (لهم) * (لله) * وهم مقرون بذلك لا ينكرونه، أفلا حين اعترفوا بانفراد الله، بالملك والتدبير أن يعترفوا له بالإخلاص والتوحيد؟ وقوله: * (كتب على نفسه الرحمة) * أي: العالم العلوي والسفلي، تحت ملكه وتدبيره، وهو تعالى، قد بسط عليهم رحمته وإحسانه، وتغمدهم برحمته وامتنانه، وكتب على نفسه كتابا (أن رحمته تغلب غضبه) و (أن العطاء أحب إليه من المنع) و (أن الله قد فتح لجميع العباد أبواب الرحمة، إن لم يغلقوا عليهم أبوابها بذنوبهم، ودعاهم إليها، إن لم تمنعهم من طلبها معاصيهم وعيوبهم). وقوله: * (ليجمعنكم إلى يوم القيامة. لا ريب فيه) * وهذا قسم منه،
(٢٥١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 246 247 248 249 250 251 252 253 254 255 256 ... » »»