تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٢٤٢
الصوامع متعبدين. والعلم مع الزهد، وكذلك العبادة مما يلطف القلب ويرققه، ويزيل عنه ما فيه، من الجفاء والغلظة، فلذلك لا يوجد فيهم غلظة اليهود، وشدة المشركين. ومنها: * (أنهم لا يستكبرون) * أي: ليس فيهم تكبر ولا عتو، عن الانقياد للحق. وذلك موجب لقربهم من المسلمين، ومن محبتهم. فإن المتواضع، أقرب إلى الخير، من المستكبر. ومنها: أنهم * (إذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول) * محمد صلى الله عليه وسلم، أثر ذلك في قلوبهم وخشعوا له، وفاضت أعينهم، بحسب ما سمعوا من الحق الذي تيقنوه، فلذلك آمنوا، وأقروا به فقالوا: * (ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين) * وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يشهدون لله بالتوحيد، ولرسله بالرسالة، وصحة ما جاؤوا به، ويشهدون على الأمم السابقة، بالتصديق والتكذيب. وهم عدول، شهادتهم مقبولة، كما قال تعالى: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) *. فكأنهم ليموا على إيمانهم، ومسارعتهم فيه، فقالوا: * (وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين) * أي: وما الذي يمنعنا، من الإيمان بالله، والحال، أنه قد جاءنا الحق من ربنا، الذي لا يقبل الشك والريب. ونحن إذا آمنا واتبعنا الحق، طمعنا أن يدخلنا الله الجنة، مع القوم الصالحين. فأي مانع يمنعنا؟ أليس ذلك موجبا للمسارعة والانقياد للإيمان، وعدم التخلف عنه. قال الله تعالى: * (فأثابهم الله بما قالوا) * أي: بما تفوهوا به من الإيمان، ونطقوا به من التصديق بالحق. * (جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين) *. وهذه الآيات، نزلت في النصارى الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، كالنجاشي وغيره، ممن آمن منهم. وكذلك لا يزال يوجد فيهم، من يختار دين الإسلام، ويتبين له بطلان ما كانوا عليه، وهم أقرب من اليهود والمشركين، إلى دين الإسلام. ولما ذكر ثواب المحسنين، ذكر عقاب المسيئين فقال: * (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم) * لأنهم كفروا بالله، وكذبوا بآياته المبينة للحق. * (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون) * يقول تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) * من المطاعم والمشارب، فإنها نعم أنعم الله بها عليكم، فاحمدوه، إذ أحلها لكم، واشكروه، ولا تردوا نعمته بكفرها، أو عدم قبولها، أو اعتقاد تحريمها. فتجمعوا بذلك بين قول الكذب على الله، وكفر النعمة، واعتقاد الحلال الطيب، حراما خبيثا، فإن هذا من الاعتداء. والله قد نهى عن الاعتداء فقال: * (ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) * بل يبغضهم ويمقتهم، ويعاقبهم على ذلك. ثم أمر بضد ما عليه المشركون، الذين يحرمون، ما أحل الله فقال: * (وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا) * أي: كلوا من رزقه الذي ساقه إليكم، بما يسره من الأسباب، إذ كان حلالا، لا سرقة، ولا غصبا، ولا غير ذلك، من أنواع الأموال، التي تؤخذ بغير حق. وكان أيضا طيبا، وهو: الذي لا خبث فيه. فخرج بذلك الخبيث من السباع والخبائث. * (واتقوا الله) * في امتثال أوامره، واجتناب نواهيه. * (الذي أنتم به مؤمنون) * فإن إيمانكم بالله، يوجب عليكم تقواه ومراعاة حقه. فإنه لا يتم إلا بذلك. ودلت الآية الكريمة، على أنه إذا حرم حلالا عليه، من طعام، وشراب، وسرية، وأمة، ونحو ذلك، فإنه لا يكون حراما بتحريمه. لكن لو فعله، فعليه كفارة يمين، كما قال تعالى: * (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك) * الآية. إلا أن تحريم الزوجة، فيه كفارة ظهار. ويدخل في هذه الآية، أنه لا ينبغي للإنسان، أن يتجنب الطيبات، ويحرمها على نفسه، بل يتناولها، مستعينا بها، على طاعة ربه. * (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ول كن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون) * أي: في أيمانكم، التي صدرت على وجه اللغو، وهي الأيمان، التي حلف بها المقسم من غير نية ولا قصد، أو عقدها يظن صدق نفسه فبان بخلاف ذلك. * (ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان) * أي: بما عزمتم عليه، وعقدت عليه قلوبكم. كما قال في الآية الأخرى: * (ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) *. * (فكفارته) * أي: كفارة الأيمان، التي عقدتموها بقصدكم * (إطعام عشرة مساكين) *. وذلك الإطعام * (من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم) * أي: كسوة عشرة مساكين، والكسوة هي التي تجزى في الصلاة. * (أو تحرير رقبة) * كما قيدت في غير هذا الموضع. فمتى فعل واحدا من هذه الثلاثة، فقد انحلت يمينه. * (فمن لم يجد) * واحدا من هذه الثلاثة * (فصيام ثلاثة أيام ذلك) * المذكور * (كفارة أيمانكم إذا حلفتم) * تكفرها، وتمحوها، وتمنع من الإثم. * (واحفظوا أيمانكم) * عن الحلف بالله كاذبا، وعن كثرة الأيمان، واحفظوها إذا حلفتم عن الحنث فيها، إلا إذا كان الحنث خيرا، فتمام الحفظ: أن يفعل الخير، ولا يكون يمينه عرضة لذلك الخير. * (كذلك يبين الله لكم آياته) * المبينة للحلال من الحرام، الموضحة للأحكام. * (لعلكم تشكرون) * الله، حيث علمكم ما لم تكونوا تعلمون. فعلى العبد، شكر الله تعالى، على ما من به
(٢٤٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 237 238 239 240 241 242 243 244 245 246 247 ... » »»