تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٢٣٨
أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين * ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم * ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل ومآ أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون) * يخبر تعالى، عن مقالة اليهود الشنيعة، وعقيدتهم الفظيعة، فقال: * (وقالت اليهود يد الله مغلولة) * أي: عن الخير والإحسان، والبر. * (غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا) * وهذا دعاء عليهم، بجنس مقالتهم. فإن كلامهم متضمن لوصف الله الكريم، بالبخل، وعدم الإحسان. فجازاهم بأن كان هذا الوصف منطبقا عليهم. فكانوا أبخل الناس، وأقلهم إحسانا، وأسوأهم ظنا بالله، وأبعدهم عن رحمته، التي وسعت كل شيء، وملأت أقطار العالم العلوي والسفلي. ولهذا قال: * (بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء) * لا حجر عليه، ولا مانع يمنعه، مما أراد. فإنه تعالى، قد بسط فضله، وإحسانه الديني والدنيوي، وأمر العباد أن يتعرضوا لنفحات جوده، وأن لا يسدوا على أنفسهم أبواب إحسانه، بمعاصيهم. فيده سحاء الليل والنهار، وخيره في جميع الأوقات مدرارا. يفرج كربا، ويزيل غما، ويغني فقيرا، ويفك أسيرا ويجبر كسيرا، ويجيب سائلا، ويعطي فقيرا عائلا، ويجيب المضطرين، ويستجيب للسائلين. وينعم على من لم يسأله، ويعافي من طلب العافية، ولا يحرم من خيره عاصيا. بل خيره، يرتع فيه البر والفاجر، ويجود على أوليائه بالتوفيق لصالح الأعمال. ثم يحمدهم عليها، ويضيفها إليهم، وهي من جوده ويثيبهم عليها من الثواب العاجل والآجل، ما لا يدركه الوصف، ولا يخطر على بال العبد. ويلطف بهم في جميع أمورهم، ويوصل إليهم من الإحسان، ويدفع عنهم من النقم ما لا يشعرون بكثير منه. فسبحان من كل النعم، التي بالعباد، فمنه، وإليه يجأرون في دفع المكاره. وتبارك من لا يحصي أحد ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه. وتعالى من لا يخلو العباد من كرمه طرفة عين، بل ولا وجود لهم، ولا بقاء إلا بجوده. وقبح الله من استغنى بجهله عن ربه، ونسبه إلى ما لا يليق بجلاله. بل لو عامل الله اليهود القائلين تلك المقالة، ونحوهم ممن حاله كحالهم، ببعض قولهم، لهلكوا، وشقوا في دنياهم. ولكنهم يقولون تلك الأقوال، وهو تعالى، يحلم عنهم، ويصفح، ويمهلهم، ولا يهملهم. وقوله: * (وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا) *. وهذا من أعظم العقوبات على العبد، أن يكون الذكر الذي أنزله الله على رسوله، الذي فيه حياة القلب والروح، وسعادة الدنيا والآخرة، وفلاح الدارين، الذي هو أكبر منه، امتن الله بها على عباده، توجب عليهم المبادرة إلى قبولها، والاستسلام لله بها، وشكرا لله عليها، أن تكون لمثل هذا زيادة غي إلى غيه، وطغيان إلى طغيانه، وكفر إلى كفره. وذلك، بسبب، إعراضه عنها، ورده لها، ومعاندته إياها، ومعارضته لها، بالشبه الباطلة. * (وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة) * فلا يتألفون، ولا يتناصرون، ولا يتفقون على حالة فيها مصلحتهم. بل لم يزالوا متباغضين في قلوبهم، متعادين بأفعالهم، إلى يوم القيامة. * (كلما أوقدوا نارا للحرب) * ليكيدوا بها الإسلام وأهله، وأبدوا، وأعادوا، وأجلبوا بخيلهم ورجلهم * (أطفأها الله) * بخذلانهم، وتفرق جنودهم، وانتصار المسلمين عليهم. * (ويسعون في الأرض فسادا) * أي: يجتهدون ويجدون، ولكن بالفساد في الأرض. أي: بعمل المعاصي، والدعوة إلى دينهم الباطل، والتعويق عن الدخول في الإسلام. * (والله يحب المفسدين) * بل يبغضهم أشد البغض، وسيجازيهم على ذلك. ثم قال تعالى: * (ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم) *. وهذا من كرمه وجوده، حيث لما ذكر قبائح أهل الكتاب ومعايبهم، وأقوالهم الباطلة، دعاهم إلى التوبة، وأنهم لو آمنوا بالله وملائكته وجميع كتبه، وجميع رسله، واتقوا المعاصي، لكفر عنهم سيئاتهم، ولو كانت ما كانت، ولأدخلهم جنات النعيم، التي فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين. * (ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم) * أي: قاموا بأوامرها، كما ندبهم الله وحثهم. ومن إقامتهما الإيمان بما دعوا إليه، من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن. فلو قاموا بهذه النعمة العظيمة، التي أنزلها ربهم إليهم، أي: لأجلهم وللاعتناء بهم * (لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم) * أي: لأدر الله عليهم
(٢٣٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 233 234 235 236 237 238 239 240 241 242 243 ... » »»