تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٢٢٨
خسرتم دنياكم، بما فاتكم من النصر على الأعداء، وفتح بلادكم. وآخرتكم، بما فاتكم من الثواب، وما استحققتم بمعصيتكم من العقاب. فقالوا قولا، يدل على ضعف قلوبهم، وخور نفوسهم، وعدم اهتمامهم بأمر الله ورسوله. * (يا موسى إن فيها قوما جبارين) * شديدي القوة والشجاعة، أي: فلهذا من الموانع لنا من دخولها. * (وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون) *. وهذا من الجبن وقلة اليقين. وإلا، فلو كان معهم رشدهم، لعلموا أنهم كلهم من بني آدم، وأن القوي، من أعانه الله بقوة من عنده، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله. ولعلموا أنهم سينصرون عليهم، إذ وعدهم الله بذلك، وعدا خاصا. * (قال رجلان من الذين يخافون) * الله تعالى، مشجعين لقومهم، منهضين لهم على قتال عدوهم، واحتلال بلادهم. * (أنعم الله عليهما) * بالتوفيق، وكلمة الحق، في هذا الموطن المحتاج إلى مثل كلامهم، وأنعم عليهم بالصبر واليقين. * (ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون) * أي: ليس بينكم وبين نصركم عليهم إلا أن تجزموا عليهم، وتدخلوا عليهم الباب، فإذا دخلتموه عليهم، فإنهم سينهزمون. ثم أمرهم بعدة هي أقوى العدد فقال: * (وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) *. فإن في التوكل على الله وخصوصا في هذا الموطن تيسيرا للأمر، ونصرا على الأعداء. ودل هذا على وجوب التوكل، وعلى أنه بحسب إيمان العبد، يكون توكله. فلم ينجع فيهم هذا الكلام، ولا نفع فيهم الملام، فقالوا قول الأذلين: * (يا موسى، إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها، فاذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ههنا قاعدون) *. فما أشنع هذا الكلام منهم، ومواجهتهم به لنبيهم في هذا المقام الحرج الضيق، الذي قد دعت الحاجة والضرورة فيه إلى نصرة نبيهم، وإعزاز أنفسهم. وبهذا وأمثاله، يظهر التفاوت بين سائر الأمم، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم، حيث قال الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين شاورهم في القتال يوم (بدر) مع أنه لم يحتم عليهم: يا رسول الله، لو خضت بنا هذا البحر، لخضناه معك، ولو بلغت بنا برك الغماد، ما تخلف عنك أحد. ولا نقول كما قال قوم موسى لموسى: * (اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون) *. ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، من بين يديك ومن خلفك، وعن يمينك، وعن يسارك. فلما رأى موسى عليه السلام، عتوهم عليه * (قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي) * أي: فلا يدان لنا بقتالهم، ولست بجبار على هؤلاء. * (فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين) * أي: احكم بيننا وبينهم، بأن تنزل فيهم من العقوبة، ما اقتضته حكمتك. ودل ذلك، على أن قولهم وفعلهم، من الكبائر العظيمة الموجبة للفسق. * (قال) * مجيبا لدعوة موسى: * (فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض) * أي: إن من عقوبتهم، أن نحرم عليهم دخول هذه القرية التي كتبهم الله لها، مدة أربعين سنة. وتلك المدة أيضا، يتيهون في الأرض، لا يهتدون إلى طريق، ولا يبقون مطمئنين. وهذه عقوبة دنيوية، لعل الله تعالى، كفر بها عنهم، ودفع عنهم عقوبة أعظم منها. وفي هذا، دليل على أن العقوبة على الذنب: قد تكون بزوال نعمة موجودة، أو دفع نقمة، قد انعقد سبب وجودها أو تأخرها، إلى وقت آخر. ولعل الحكمة في هذه المدة، أن يموت أكثر هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة، الصادرة عن قلوب لا صبر فيها ولا ثبات. بل قد ألفت الاستعباد لعدوها، ولم تكن لها همم ترقيها إلى ما فيه ارتقاؤها وعلوها. ولتظهر ناشئة جديدة، تتربى عقولهم على طلب قهر الأعداء، وعدم الاستعباد، والذل المانع من السعادة. ولما علم الله تعالى، أن عبده موسى، في غاية الرحمة على الخلق، خصوصا قومه، وأنه ربما رق لهم، واحتملته الشفقة على الحزن عليهم في هذه العقوبة، أو الدعاء لهم بزوالها، مع أن الله قد حتمها، قال: * (فلا تأس على القوم الفاسقين) * أي: لا تأسف عليهم ولا تحزن، فإنهم قد فسقوا، وفسقهم اقتضى وقوع ما نزل بهم، لا ظلما منا. * (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين * لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين * إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين * فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين * فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل ه ذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين) * أي: قص على الناس، وأخبرهم بالقضية التي جرت على ابني آدم بالحق، تلاوة يعتبر بها المعتبرون، صدقا، لا كذبا، وجدا، لا لعبا. والظاهر أن بني آدم، هما ابناه لصلبه، كما يدل عليه ظاهر الآية والسياق، وهو قول جمهور المفسرين. أي: أتل عليهم نبأهما، في حال تقريبهما للقربان، الذي أداهما إلى الحال
(٢٢٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 223 224 225 226 227 228 229 230 231 232 233 ... » »»