تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٢٣٣
وذلك الحكم الصادر منهم الموافق للحق * (بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء) * أي: بسبب أن الله استحفظهم على كتابه، وجعلهم أمناء عليه، وهو أمانة عندهم، أوجب عليهم حفظه، من الزيادة والنقصان والكتمان، وتعليمه لمن لا يعلمه. وهم شهداء عليه، بحيث إنهم المرجوع إليهم فيه، وفيما اشتبه على الناس منه. فالله تعالى قد حمل أهل العلم، ما لم يحمله الجهال، فيجب عليهم القيام بأعباء ما حملوا. وأن لا يقتدوا بالجهال، في الإخلاد إلى البطالة والكسل. وأن لا يقتصروا على مجرد العبادات القاصرة، من أنواع الذكر، والصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، ونحو ذلك من الأمور، التي إذا قام بها غير أهل العلم، سلموا ونجوا. وأما أهل العلم، فكما أنهم مطالبون أن يعلموا الناس وينبهوهم على ما يحتاجون إليه، من أمور دينهم، خصوصا الأمور الأصولية، والتي يكثر وقوعها وأن لا يخشوا الناس بل يخشون ربهم ولهذا قال: * (فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا) * فتكتموا الحق، وتظهروا الباطل، لأجل متاع الدنيا القليل. وهذه الآفات، إذا سلم منها العالم، فهو من توفيقه. وسعادته بأن يكون همه، الاجتهاد في العلم والتعليم، ويعلم، أن الله قد استحفظه بما أودعه من العلم، واستشهده عليه وأن يكون خائفا من ربه. ولا يمنعه خوف الناس وخشيتهم، من القيام بما هو لازم له. وأن لا يؤثر الدنيا على الدين. كما أن علامة شقاوة العالم، أن يكون مخلدا للبطالة، غير قائم بما أمر به، ولا مبال بما استحفظ عليه. قد أهمله وأضاعه، قد باع الدين بالدنيا، قد ارتشى في أحكامه، وأخذ المال على فتاويه، ولم يعلم عباد الله، إلا بأجرة وجعالة. فهذا قد من الله عليه بمنة عظيمة، كفرها، ودفع حظا جسيما، حرم منه غيره. فنسألك اللهم، علما نافعا، وعملا متقبلا، وأن ترزقنا العفو والعافية، من كل بلاء، يا كريم. * (ومن لم يحكم بما أنزل الله) * من الحق المبين، وحكم بالباطل الذي يعلمه، لغرض من أغراضه الفاسدة * (فأولئك هم الكافرون) *. فالحكم بغير ما أنزل الله من أعمال أهل الكفر، وقد يكون كفرا ينقل عن الملة. وذلك إذا اعتقد حله وجوازه. وقد يكون كبيرة من كبائر الذنوب، ومن أعمال الكفر، قد استحق من فعله، العذاب الشديد. * (وكتبنا عليهم فيهآ أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأول ئك هم الظالمون) * هذه الأحكام من جملة الأحكام التي في التوراة، يحكم بها النبيون الذين أسلموا، للذين هادوا، والربانيون، والأحبار. فإن الله أوجب عليهم، أن النفس إذا قتلت تقتل بالنفس بشرط العمد والمكافأة. والعين، تقلع بالعين، والأذن تؤخذ بالأذن، والسن ينزع بالسن. ومثل هذه ما أشبهها من الأطراف التي يمكن الاقتصاص منها بدون حيف. * (والجروح قصاص) * والاقتصاص: أن يفعل به كما فعل. فمن جرح غيره عمدا، اقتص من الجارح جرحا، مثل جرحه للمجروح، حدا، وموضعا، وطولا، وعرضا وعمقا. وليعلم أن شرع من قبلنا، شرع لنا، ما لم يرد شرعنا بخلافه. * (فمن تصدق به) * أي: بالقصاص في النفس، وما دونها من الأطراف والجروح، بأن عفا عمن جنى، وثبت له الحق قبله. * (فهو كفارة له) * أي: كفارة للجاني، لأن الآدمي عفا عن حقه. والله تعالى أحق وأولى بالعفو عن حقه. وكفارة أيضا عن العافي، فإنه كما عفا عمن جنى عليه، أو عمن يتعلق به فإن الله يعفو عن زلاته وجناياته. * (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) * قال ابن عباس، كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق. فهو ظلم أكبر، عند استحلاله، وعظيمة كبيرة عند فعله، غير مستحل له. * (وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين * وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأول ئك هم الفاسقون) * أي: وأتبعنا هؤلاء الأنبياء والمرسلين، الذين يحكمون بالتوراة، بعبدنا ورسولنا، عيسى بن مريم، روح الله وكلمته التي ألقاها إلى مريم. بعثه الله مصدقا لما بين يديه من التوراة، فهو شاهد لموسى، ولما جاء به من التوراة، بالحق والصدق، ومؤيد لدعوته، وحاكم بشريعته، وموافق له في أكثر الأمور الشرعية. وقد يكون عيسى عليه السلام أخف في بعض الأحكام، كما قال تعالى عنه
(٢٣٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 228 229 230 231 232 233 234 235 236 237 238 ... » »»