تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٢٢٧
ولا قدرة لهم على ذلك دل على بطلان إلهية من لا يمتنع من الإهلاك، ولا في قوته شيء من الفكاك. ومن الأدلة أن * (لله) * وحده * (له ملك السماوات والأرض وما بينهما) * يتصرف فيهم بحكمه الكوني والشرعي والجزائي، وهم مملوكون مدبرون. فهل يليق أن يكون المملوك العبد الفقير، إلها معبودا، غنيا من كل وجه؟ هذا من أعظم المحال. ولا وجه لاستغرابهم، لخلق المسيح عيسى بن مريم، من غير أب فإن الله * (يخلق ما يشاء) * إن شاء من أب وأم، كسائر بني آدم، وإن شاء من أب بلا أم، كحواء. وإن شاء من أم بلا أب، كعيسى. وإن شاء من غير أب ولا أم، كآدم. فنوع خليقته تعالى، بمشيئته النافذة، التي لا يستعصي عليها شيء ولهذا قال: * (والله على كل شيء قدير) *. ومن مقالات اليهود والنصارى، أن كلا منهما، ادعى دعوى باطلة، يزكون بها أنفسهم بأن قال كل منهما: * (نحن أبناء الله وأحباؤه) *. والابن في لغتهم هو الحبيب، ولم يريدوا البنوة الحقيقية، فإن هذا ليس من مذهبهم إلا مذهب النصارى في المسيح. قال الله ردا عليهم، حيث ادعوا بلا برهان: * (قل فلم يعذبكم بذنوبكم) *؟ فلو كنتم أحبابه، ما عذبكم، لكون الله لا يحب إلا من قام بمراضيه. * (بل أنتم بشر ممن خلق) * تجرى عليكم أحكام العدل والفضل. * (يعفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) * إذا أتوا بأسباب المغفرة أو أسباب العذاب. * (ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير) * أي: فأي شيء خصكم بهذه الفضيلة، وأنتم من جملة المماليك، ومن جملة من يرجع إلى الله في الدار الآخرة، فيجازيكم بأعمالكم. * (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جآءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير) * يدعو تبارك وتعالى أهل الكتاب بسبب ما من عليهم من كتابه أن يؤمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ويشكروا الله تعالى، الذي أرسله إليهم * (على فترة من الرسل) * وشدة حاجة إليه. وهذا مما يدعو إلى الإيمان به، وأن يبين لهم جميع المطالب الإلهية والأحكام الشرعية. وقد قطع الله بذلك حجتهم، لئلا يقولوا: * (ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير) *. يبشر بالثواب العاجل والآجل، وبالأعمال الموجبة لذلك، وصفة العاملين بها. وينذر بالعقاب العاجل والآجل، وبالأعمال الموجبة لذلك، وصفة العاملين بها. * (والله على كل شيء قدير) * انقادت الأشياء طوعا وإذعانا، لقدرته، فلا يستعصي عليه شيء منها. ومن قدرته أن أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وأنه يثيب من أطاعهم ويعاقب من عصاهم. * (وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين * يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين * قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون * قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين * قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون * قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين * قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين) * لما امتن الله على موسى وقومه، بنجاتهم من فرعون وقومه، وأسرهم واستعبادهم، ذهبوا قاصدين، لأوطانهم ومساكنهم، وهي بيت المقدس، وما حواليه وقاربوا وصول بيت المقدس. وكان الله قد فرض عليهم جهاد عدوهم، ليخرجوه من ديارهم. فوعظهم موسى عليه السلام؛ وذكرهم، ليقروا على الجهاد فقال: * (اذكروا نعمة الله عليكم) * بقلوبكم وألسنتكم. فإن ذكرها داع إلى محبته تعالى ومنشط على العبادة. * (إذ جعل فيكم أنبياء) * يدعونكم إلى الهدى، ويحذرونكم من الردى ويحثونكم على سعادتكم الأبدية، ويعلمونكم ما لم تكونوا تعلمون. * (وجعلكم ملوكا) * تملكون أمركم، بحيث إنه زال عنكم استعباد عدوكم لكم، فكنتم تملكون أمركم، وتتمكنون من إقامة دينكم. * (وآتاكم) * من النعم الدينية والدنيوية * (ما لم يؤت أحدا من العالمين) *. فإنهم في ذلك الزمان خيرة الخلق، وأكرمهم على الله. وقد أنعم عليهم بنعم ما كانت لغيرهم. فذكرهم بالنعم الدينية والدنيوية، الداعي ذلك لإيمانهم، وثباته، وثباتهم على الجهاد، وإقدامهم عليه ولهذا قال: * (يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة) * أي: المطهرة * (التي كتب الله لكم) *. فأخبرهم خبرا تطمئن به أنفسهم، إن كانوا مؤمنين مصدقين بخبر الله. وأنه قد كتب الله لهم دخولها، وانتصارهم على عدوهم. * (ولا ترتدوا) * أي: ترجعوا * (على أدباركم فتنقلبوا خاسرين) * قد
(٢٢٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 222 223 224 225 226 227 228 229 230 231 232 ... » »»