فلم يستنكفوا أن يكونوا عبيدا لربوبيته، ولا لإلهيته، بل يرون افتقارهم لذلك، فوق كل افتقار. ولا يظن أن رفع عيسى، أو غيره من الخلق، فوق مرتبته، التي أنزله الله فيها، وترفعه عن العبادة كمالا، بل هو النقص بعينه، وهو محل الذم والعقاب، ولهذا قال: * (ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا) * أي: فسيحشر الخلق كلهم إليه، المستنكفين، والمستكبرين وعباده المؤمنين، فيحكم بينهم، بحكمه العدل، وجزائه الفصل. ثم فصل حكمه فيهم فقال: * (فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * أي: جمعوا بين الإيمان المأمور به، وعمل الصالحات، من واجبات، ومستحبات، في حقوق الله، وحقوق عباده. * (فيوفيهم أجورهم) * أي: الأجور التي رتبها على الأعمال، كل بحسب إيمانه وعمله. * (ويزيدهم من فضله) * من الثواب، الذي لم تنله أعمالهم، ولم تصل إليه أفعالهم، ولم يخطر على قلوبهم. ودخل في ذلك، كل ما في الجنة، من المآكل، والمشارب، والمناكح، والمناظر، والسرور، ونعيم القلب والروح، ونعيم البدن. بل يدخل في ذلك، كل خير، ديني، ودنيوي، رتب على الإيمان، والعمل الصالح. * (وأما الذين استنكفوا واستكبروا) * أي: عن عبادة الله تعالى * (فيعذبهم عذابا أليما) * وهو سخط الله وغضبه، والنار الموقدة، التي تطلع على الأفئدة. * (ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا) * أي: لا يجدون أحدا من الخلق، يتولاهم، فيحصل لهم المطلوب، ولا من ينصرهم، فيدفع عنهم المرهوب. بل قد تخلى عنهم، أرحم الراحمين، وتركهم في عذابهم خالدين. وما حكم به تعالى، فلا راد لحكمه، ولا مغير لقضائه. * (يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما) * يمتن تعالى، على سائر الناس، بما أوصل إليهم، من البراهين القاطعة، والأنوار الساطعة، ويقيم عليهم الحجة، ويوضح لهم المحجة فقال: * (يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم) * أي: حجج قاطعة على الحق، تبينه وتوضحه، وتبين ضده. وهذا يشمل الأدلة العقلية والنقلية، والآيات الأفقية والنفسية * (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) *. وفي قوله: * (من ربكم) * ما يدل على شرف هذا البرهان وعظمته، حيث كان من ربكم، الذي رباكم التربية الدينية والدنيوية. فمن تربيته لكم، التي يحمد عليها ويشكر، أن أوصل إليكم البينات، ليهديكم بها إلى الصراط المستقيم، والوصول إلى جنات النعيم. * (وأنزلنا إليكم نورا مبينا) * وهو هذا القرآن العظيم، الذي قد اشتمل على علوم الأولين والآخرين، والأخبار الصادقة النافعة، والأمر بكل عدل وإحسان وخير، والنهي عن كل ظلم وشر. فالناس في ظلمة، إن لم يستضيئوا بأنواره، وفي شقاء عظيم، إن لم يقتبسوا من خيره. ولكن انقسم الناس حسب الإيمان بالقرآن، والانتفاع به قسمين. * (فأما الذين آمنوا بالله) * أي: اعترفوا بوجوده، واتصافه بكل وصف كامل، وتنزيهه من كل نقص وعيب. * (واعتصموا به) * أي: لجأوا إلى الله، واعتمدوا عليه، وتبرأوا من حولهم وقوتهم، واستعانوا بربهم. * (فسيدخلهم في رحمة منه وفضل) * أي: فسيتغمدهم بالرحمة الخاصة، فيوفقهم للخيرات، ويجزل لهم المثوبات، ويدفع عنهم البليات. * (ويهديهم إليه صراطا مستقيما) * أي: يوفقهم للعلم والعمل ومعرفة الحق والعمل به. أي: ومن لم يؤمن بالله ويعتصم به، ويتمسك بكتابه، منعهم من رحمته، وحرمهم من فضله، وخلى بينهم وبين أنفسهم، فلم يهتدوا، بل ضلوا ضلالا مبينا، عقوبة لهم على تركهم الإيمان، فحصلت لهم الخيبة والحرمان. نسأله تعالى، العفو، والعافية، والمعافاة. * (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثهآ إن لم يكن لهآ ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم) * أخبر تعالى أن الناس استفتوا رسوله صلى الله عليه وسلم أي: في الكلالة بدليل قوله: * (قل الله يفتيكم في الكلالة) * وهي: الميت يموت، وليس له ولد صلب، ولا ولد ابن، ولا أب، ولا جد، ولهذا قال: * (إن امرؤ هلك ليس له ولد) * أي: لا ذكر ولا أنثى، لا ولد صلب، ولا ولد ابن. وكذلك، ليس له والد، بدليل أنه ورث فيه الإخوة، والإخوة بالإجماع، لا يرثون مع الوالد. فإذا هلك، وليس له ولد، ولا والد * (وله أخت) * أي: شقيقة، أو لأب، لا لأم، فإنه قد تقدم حكمها. * (فلها نصف ما ترك) * أي: نصف متروكات أخيها، من نقود، وعقار، وأثاث، وغير ذلك، وذلك من بعد الدين والوصية كما تقدم. * (وهو) * أي: أخوها الشقيق، أو الذي للأب * (يرثها إن لم يكن لها ولد) * ولم يقدر له إرث، لأنه عاصب فيأخذ مالها كله، إن لم يكن صاحب فرض ولا عاصب يشاركه، أو ما أبقت الفروض. * (فإن كانتا) * أي الأختان * (اثنتين) * أي: فما فوق * (فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء) * أي: اجتمع الذكور من الإخوة لغير أم، مع الإناث * (فللذكر مثل حظ الأنثيين) * فيسقط فرض الإناث، ويعصبهن إخوتهن. * (يبين الله لكم أن تضلوا) * أي:
(٢١٧)