همم. فلا تبال أيضا، إذا لم يتبعوك، لأنهم في غاية النقص، والناقص لا يؤبه له، ولا يبالي به. * (يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا) * أي: هذا قولهم عند محاكمتهم إليك، لا قصد لهم، إلا اتباع الهوى. يقول بعضهم لبعض: إن حكم لكم محمد بهذا الحكم، الذي يوافق هواكم، فاقبلوا حكمه. وإن لم يحكم لكم به، فاحذروا أن تتابعوه على ذلك. وهذا فتنة واتباع ما تهوى الأنفس. * (ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا) * كقوله تعالى: * (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) *. * (أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم) * أي: فلذلك صدر منهم ما صدر. فدل ذلك، على أن من كان مقصوده بالتحاكم، إلى الحكم الشرعي، اتباع هواه، وأنه إن حكم له رضي، وإن لم يحكم له، سخط، فإن ذلك من عدم طهارة قلبه. كما أن من حاكم وتحاكم إلى الشرع، ورضي به، وافق هواه أو خالفه، فإنه من طهارة القلب. ودل على أن طهارة القلب، سبب لكل خير، وهو أكبر داع إلى كل قول رشيد، وعمل سديد. * (لهم في الدنيا خزي) * أي: فضيحة وعار * (ولهم في الآخرة عذاب عظيم) * هو: النار، وسخط الجبار. * (سماعون للكذب) * والسمع ههنا، سمع استجابة أي: من قلة دينهم وعقلهم، أن استجابوا لمن دعاهم إلى القول الكذب. * (أكالون للسحت) * أي: المال الحرام، بما يأخذونه على سفلتهم وعوامهم، من المعلومات والرواتب، التي بغير الحق. فجمعوا بين اتباع الكذب، وأكل الحرام. * (فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم) * فأنت مخير في ذلك. وليست هذه منسوخة، فإنه عند تحاكم هذا الصنف إليه يخير بين أن يحكم بينهم، أو يعرض عن الحكم بينهم، بسبب أنه، لا قصد لهم في الحكم الشرعي، إلا أن يكون موافقا لأهوائهم. وعلى هذا، فكل مستفت ومتحاكم إلى عالم، يعلم من حاله، أنه، إن حكم عليه، لم يرض، لم يجب الحكم، ولا الإفتاء لهم. فإن حكم بينهم، وجب أن يحكم بالقسط، ولهذا قال: * (وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين) *. حتى ولو كانوا ظلمة وأعداء، فلا يمنعك ذلك من العدل في الحكم بينهم. وفي هذا بيان فضيلة العدل والقسط في الحكم بين الناس، وأن الله تعالى يحبه. ثم قال متعجبا منهم: * (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين) *. فإنهم لو كانوا مؤمنين عاملين بما يقتضيه الإيمان ويوجبه لم يصدفوا عن حكم الله الذي في التوراة، التي بين أيديهم، إلا لعلهم أن يجدوا عندك ما يوافق أهواءهم. وحين حكمت بينهم بحكم الله الموافق لما عندهم أيضا، لم يرضوا بذلك، بل أعرضوا عنه، فلم يرتضوه أيضا. قال تعالى: * (وما أولئك) * الذين هذا صنيعهم * (بالمؤمنين) * أي: ليس هذ دأب المؤمنين، وليسوا حريين بالإيمان. لأنهم جعلوا آلهتهم أهواءهم، وجعلوا أحكام الإيمان، تابعة لأهوائهم. * (إنا أنزلنا التوراة) * على موسى بن عمران، عليه الصلاة والسلام. * (فيها هدى) * يهدي إلى الإيمان والحق، ويعصم من الضلالة. * (ونور) * يستضاء به في ظلم الجهل والحيرة والشكوك، والشبهات، والشهوات. كما قال تعالى: * (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان، وضياء وذكرى للمتقين) *. * (يحكم بها) * بين الذين هادوا، أي: اليهود في القضايا والفتاوى * (النبيون الذين أسلموا) * لله، وانقادوا لأوامره، الذين إسلامهم، أعظم من إسلام غيرهم، صفوة الله من العباد. فإذا كان هؤلاء النبيون الكرام، والسادة للأنام، قد اقتدوا بها، وائتموا، ومشوا خلفها، فما الذي منع هؤلاء الأراذل من اليهود، من الاقتداء بها؟ وما الذي أوجب لهم، أن ينبذوا أشرف ما فيها من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، الذي لا يقبل عمل ظاهر وباطن، إلا بتلك العقيدة؟ هل لهم إمام في ذلك؟ نعم لهم أئمة دأبهم التحريف، وإقامة رياستهم ومناصبهم بين الناس، والتأكل بكتمان الحق، وإظهار الباطل، أولئك أئمة الضلال، الذين يدعون إلى النار. وقوله: * (الربانيون والأحبار) * أي: وكذلك يحكم بالتوراة الذين هادوا أئمة الدين من الربانيين أي: العلماء العاملين المعلمين، الذين يربون الناس بأحسن تربية، ويسلكون معهم مسلك الأنبياء المشفقين. والأحبار أي: العلماء الكبار الذين يقتدى بأقوالهم، وترمق آثارهم، ولهم لسان الصدق بين أممهم.
(٢٣٢)