المذكورة. * (إذ قربا قربانا) * أي: أخرج كل منهما شيئا من ماله، لقصد التقرب إلى الله. * (فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر) * بأن علم ذلك بخبر من السماء، أو بالعادة السابقة في الأمم، أن علامة تقبل الله للقربان، أن تنزل نار من السماء فتحرقه. * (قال) * الابن، الذي لم يتقبل منه للآخر، حسدا وبغيا * (لأقتلنك) *. فقال له الآخر مترفقا له في ذلك * (إنما يتقبل الله من المتقين) * فأي: ذنب لي وجناية، توجب لك أن تقتلني؟ إلا أني اتقيت الله تعالى، الذي تقواه واجبة علي وعليك، وعلى كل أحد. وأصح الأقوال في تفسير المتقين هنا، أي: المتقين لله في ذلك العمل، بأن يكون عملهم خالصا لوجه الله، متبعين فيه لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال له مخبرا أنه لا يريد أن يتعرض لقتله، لا ابتداء، ولا مدافعة فقال: * (لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك) * وليس ذلك جبنا مني ولا عجزا. وإنما ذلك لأني * (أخاف الله رب العالمين) * والخائف لله، لا يقدم على الذنوب، خصوصا، الذنوب الكبار. وفي هذا، تخويف لمن يريد القتل، وأنه ينبغي لك أن تتقي الله وتخافه. * (إني أريد أن تبوء) * أي: ترجع * (بإثمي وإثمك) * أي: إنه إذا دار الأمر بين أن أكون قاتلا أو تقتلني، فإني أوثر أن تقتلني، فتبوء بالوزرين * (فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين) *. دل هذا، على أن القتل من كبائر الذنوب، وأنه موجب لدخول النار. فلم يرتدع ذلك الجاني، ولم ينزجر، ولم يزل يعزم نفسه ويجزمها، حتى طوعت له قتل أخيه، الذي يقتضي الشرع والطبع، احترامه. * (فقتله فأصبح من الخاسرين) * دنياهم وآخرتهم، وأصبح قد سن هذه السنة، لكل قاتل. (ومن سن سنة سيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة). ولهذا ورد في الحديث الصحيح أنه (ما من نفس تقتل، إلا كان على ابن آدم الأول، شطر من دمها، لأنه أول من سن القتل). فلما قتل أخاه، لم يدر كيف يصنع به؛ لأنه أول ميت مات من بني آدم، * (فبعث الله غرابا يبحث في الأرض) * أي: يثيرها ليدفن غرابا آخر ميتا. * (ليريه) * بذلك * (كيف يواري سوءة أخيه) * أي: بدنه، لأن بدن الميت يكون عورة * (فأصبح من النادمين) *. وهكذا عاقبة المعاصي، الندامة والخسارة. * (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون) * يقول تعالى: * (من أجل ذلك) * الذي ذكرناه في قصة ابني آدم، وقتل أحدهما أخاه، وسنة القتل لمن بعده، وأن القتل، عاقبته وخيمة وخسارة في الدنيا والآخرة. * (كتبنا على بني إسرائيل) * أهل الكتب السماوية * (أن من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض) * أي: بغير حق * (فكأنما قتل الناس جميعا) *؛ لأنه ليس معه داع يدعوه إلى التبين، وأنه لا يقدم على القتل، إلا بحق. فلما تجرأ على قتل النفس، التي لم تستحق القتل، علم أنه لا فرق عنده بين هذا المقتول وبين غيره. وإنما ذلك بحسب ما تدعوه إليه نفسه الأمارة بالسوء. فتجرؤه على قتله، كأنه قتل الناس جميعا. وكذلك من أحيا نفسا أي: استبقى أحدا، فلم يقتله مع دعاء نفسه له إلى قتله، فمنعه خوف الله تعالى من قتله، فهذا كأنه أحيا الناس جميعا. لأن ما معه من الخوف يمنعه من قتل من لا يستحق القتل. ودلت الآية على أن القتل يجوز بأحد أمرين: إما أن يقتل نفسا بغير حق، متعمدا في ذلك، فإنه يحل قتله، إن كان مكلفا مكافئا، ليس بوالد للمقتول. وإما أن يكون مفسدا في الأرض، بإفساده لأديان الناس، أو أبدانهم، أو أموالهم، كالكفار المرتدين، والمحاربين، والدعاة إلى البدع الذين لا ينكشف شرهم إلا بالقتل. وكذلك قطاع الطريق ونحوهم، ممن يصول على الناس لقتلهم، أو أخذ أموالهم. * (ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات) * التي لا يبقى معه حجة لأحد. * (ثم إن كثيرا منهم) * أي: من الناس * (بعد ذلك) * البيان القاطع للحجة، الموجب للاستقامة في الأرض * (لمسرفون) * في العمل بالمعاصي، ومخالفة الرسل، الذين جاؤوا بالبينات والحجج. * (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم) * المحاربون لله ولرسوله، هم الذين بارزوه بالعداوة، وأفسدوا في الأرض،
(٢٢٩)