تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ١٨٤
معصية الخالق. ولعل هذا هو السر في حذف الفعل، عند الأمر بطاعتهم، وذكره مع طاعة الرسول. فإن الرسول، لا يأمر إلا بطاعة الله، ومن يطعه، فقد أطاع الله. وأما أولو الأمر، فشرط الأمر بطاعتهم، أن لا يكون معصية. ثم أمر برد كل ما تنازع الناس فيه؛ من أصول الدين وفروعه، إلى الله والرسول، أي: إلى كتاب الله وسنة رسوله؛ فإن فيهما الفصل في جميع المسائل الخلافية، إما بصريحهما، أو عمومهما؛ أو إيماء، أو تنبيه، أو مفهوم، أو عموم معنى، يقاس عليه ما أشبهه. لأن كتاب الله وسنة رسوله، عليهما بناء الدين، ولا يستقيم الإيمان إلا بهما، فالرد إليهما، شرط في الإيمان، فلهذا قال: * (إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) *. فدل ذلك على أن من لم يرد إليهما مسائل النزاع فليس بمؤمن حقيقة، بل مؤمن بالطاغوت، كما ذكر في الآية بعدها. * (ذلك) * أي: الرد إلى الله ورسوله * (خير وأحسن تأويلا) * فإن حكم الله ورسوله، أحسن الأحكام وأعدلها، وأصلحها للناس، في أمر دينهم، ودنياهم، وعاقبتهم. * (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك ومآ أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا * وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا * فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنآ إلا إحسانا وتوفيقا * أول ئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا) * يعجب تعالى عباده، من حالة المنافقين. * (الذين يزعمون أنهم آمنوا) * بما جاء به الرسول وبما قبله. ومع هذا * (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت) * وهو كل من حكم بغير شرع الله فهو طاغوت. والحال أنهم * (قد أمروا أن يكفروا به) * فكيف يجتمع هذا الإيمان؟ فإن الإيمان يقتضي الانقياد لشرع الله وتحكيمه في كل أمر من الأمور. فمن زعم أنه مؤمن، واختار حكم الطاغوت على حكم الله، فهو كاذب في ذلك. وهذا من إضلال الشيطان إياهم، ولهذا قال: * (ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا) * عن الحق. * (فكيف) * يكون حال هؤلاء الضالين * (إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم) * من المعاصي، ومنها تحكيم الطاغوت؟ * (ثم جاؤوك) * معتذرين لما صدر منهم، و * (يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا) * أي: ما قصدنا في ذلك إلا الإحسان إلى المتخاصمين والتوفيق بينهم، وهم كذبة في ذلك. فإن الإحسان، تحكيم الله ورسوله. ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون. ولهذا قال: * (أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم) * أي: من النقاق والقصد السئ. * (فأغرض عنهم) * أي: لا تبال لهم ولا تقابلهم على ما فعلوه واقترفوه. * (وعظهم) * أي: بين لهم حكم الله تعالى، مع الترغيب في الانقياد لله، والترهيب من تركه. * (وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا) * أي: انصحهم سرا، بينك وبينهم، فإنه أنجح لحصول المقصود، وبالغ في زجرهم وقمعهم، عما كانوا عليه. وفي هذا دليل على أن مقترف المعاصي، وإن أعرض عنه، فإنه ينصح سرا، ويبالغ في وعظه، بما يظن حصول المقصود به. * (ومآ أرسلنا من رسول ألا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما * فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) * يخبر تعالى خبرا، في ضمنه الأمر، والحث على طاعة الرسول، والانقياد له. وأن الغاية من إرسال الرسل، أن يكونوا مطاعين، ينقاد لهم المرسل إليهم في جميع ما أمروا به، ونهوا عنه، وأن يكونوا معظمين، تعظيم المطاع من المطيع. وفي هذا إثبات عصمة الرسل، فيما يبلغونه عن الله، وفيما يأمرون به وينهون عنه؛ لأن الله، أمر بطاعتهم مطلقا، فلولا أنهم معصومون لا يشرعون ما هو خطأ، لما أمر بذلك مطلقا. وقوله: * (بإذن الله) * أي: الطاعة من المطيع، صادرة بقضاء الله وقدره. ففيه إثبات القضاء والقدر، والحث على الاستعانة بالله، وبيان أنه لا يمكن الإنسان إن لم يعنه الله أن يطيع الرسول. ثم أخبر عن كرمه العظيم وجوده، ودعوته لمن اقترفوا السيئات أن يعترفوا ويتوبوا، ويستغفروا الله فقال: * (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك) * أي: معترفين بذنوبهم، باخعين بها.
(١٨٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 179 180 181 182 183 184 185 186 187 188 189 ... » »»