تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ١٨١
وييسر لهم ما به سعادتهم وفلاحهم. * (وكفى بالله نصيرا) * ينصرهم على أعدائهم، ويبين لهم ما يحذرون منهم ويعينهم عليهم. فولايته تعالى، فيها حصول الخير، ونصره، فيه زوال الشر. ثم بين كيفية ضلالهم وعنادهم، وإيثارهم الباطل على الحق فقال: * (من الذين هادوا) * أي: اليهود، وهم علماء الضلال منهم. * (يحرفون الكلم عن مواضعه) * إما بتغيير اللفظ أو المعنى، أو هما جميعا. فمن تحريفهم تنزيل الصفات التي ذكرت في كتبهم، التي لا تنطبق ولا تصدق، إلا على محمد صلى الله عليه وسلم، على أنه غير مراد بها، ولا مقصود بها، بل أريد بها غيره، وكتمانهم ذلك. فهذا حالهم في العلم، شر حال، قلبوا فيه الحقائق، ونزلوا الحق على الباطل، وجحدوا لذلك الحق. وأما حالهم في العمل والانقياد فإنهم * (يقولون سمعنا وعصينا) * أي: سمعنا قولك، وعصينا أمرك. وهذا غاية الكفر والعناد، والشرود عن الانقياد. وكذلك يخاطبون الرسول صلى الله عليه وسلم بأقبح خطاب وأبعده عن الأدب، فيقولون: * (اسمع غير مسمع) * قصدهم: اسمع منا غير مسمع ما تحب، بل مسمع ما تكره. * (وراعنا) * قصدهم بذلك الرعونة، بالعيب القبيح. ويظنون أن اللفظ لما كان محتملا لغير ما أرادوا من الأمور أنه يروج على الله وعلى رسوله، فتوصلوا بذلك اللفظ الذي يلوون به ألسنتهم، إلى الطعن في الدين، والعيب للرسول، ويصرحون بذلك فيما بينهم، فلهذا قال: * (ليا بألسنتهم وطعنا في الدين) *. ثم أرشدهم إلى ما هو خير لهم من ذلك فقال: * (ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم) *. وذلك لما تضمنه هذا الكلام، من حسن الخطاب والأدب اللائق في مخاطبة الرسول، والدخول تحت طاعة الله، والانقياد لأمره، وحسن التلطف في طلبهم العلم، بسماع سؤالهم، والاعتناء بأمرهم. فهذا هو الذي ينبغي لهم سلوكه. ولكن لما كانت طبائعهم غير زكية، أعرضوا عن ذلك، وطردهم الله، بكفرهم وعنادهم. ولهذا قال: * (ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا) *. * (يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا) * يأمر تعالى أهل الكتاب، من اليهود والنصارى، أن يؤمنوا بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وما أنزل الله عليه من القرآن العظيم، المهيمن على غيره، من الكتب السابقة التي صدقها، فإنها أخبرت به. فلما وقع المخبر به، كان تصديقا لذلك الخبر. وأيضا، فإنهم إن لم يؤمنوا بهذا القرآن، فإنهم لم يؤمنوا بما في أيديهم من الكتب، لأن كتب الله يصدق بعضها بعضا، ويوافق بعضها بعضا. فدعوى الإيمان ببعضها، دون بعض، دعوى باطلة، لا يمكن صدقها. وفي قوله: * (آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم) * حث لهم، وأنهم ينبغي أن يكونوا قبل غيرهم، مبادرين إليه بسبب ما أنعم الله عليهم به، من العلم، والكتاب الذي يوجب أن يكون ما عليهم، أعظم من غيرهم، ولهذا توعدهم على عدم الإيمان فقال: * (من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها) * وهذا جزاء من جنس ما عملوا. فكما تركوا الحق، وآثروا الباطل، وقبلوا الحقائق، فجعلوا الباطل حقا، والحق باطلا جوزوا من جنس ذلك، بطمس وجوههم، كما طمسوا الحق، وردها على أدبارها، بأن تجعل في أقفائهم، وهذا أشنع ما يكون. * (أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت) * بأن يطردهم من رحمته، ويعاقبهم بجعلهم قردة، كما فعل بإخوانهم الذين اعتدوا في السبت. * (فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين) *. * (وكان أمر الله مفعولا) * كقوله: * (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) *. * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما) * يخبر تعالى أنه لا يغفر لمن أشرك به أحدا من المخلوقين، ويغفر ما دون ذلك، من الذنوب، صغائرها، وكبائرها، وذلك عند مشيئته مغفرة ذلك، إذا اقتضت حكمته مغفرته. فالذنوب التي دون الشرك، قد جعل الله لمغفرتها، أسبابا كثيرة كالحسنات الماحية، والمصائب المكفرة في الدنيا، والبرزخ، ويوم القيامة، وكدعاء المؤمنين، بعضهم لبعض، وبشفاعة الشافعين. ومن دون ذلك كله، رحمته، التي أحق بها أهل الإيمان والتوحيد. وهذا بخلاف الشرك فإنه المشرك، قد سد على نفسه أبواب المغفرة، وأغلق دونه أبواب الرحمة، فلا تنفعه الطاعات من دون التوحيد، ولا تفيده المصائب شيئا * (وما لهم يوم القيامة من شافعين * ولا صديق حميم) *. ولهذا قال تعالى: * (ومن يشرك بالله
(١٨١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 176 177 178 179 180 181 182 183 184 185 186 ... » »»